الثلاثاء، نوفمبر 14، 2017

بشهادة يهود ومستشرقين: اليهود بين أمة الإسلام والأمم الأخرى

أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق فقال تعالى في شأنه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم رسالته فقال: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ"[1]، وقد أتم الله الدين وبلغ النبي الرسالة فصار المسلمون كما وصفهم ربهم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].

وقد كانت سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي أعظم قصة نجاح بشري، حتى عدَّه مايكل هارت أعظم عظماء العالم لأنه الوحيد في التاريخ الذي نجح على المستوى الديني والدنيوي معا، وكان تاريخ المسلمين أقوم تواريخ الأمم وإن كان تاريخ بشر غير معصومين.

في هذه المقال –والمقالات القادمة إن شاء الله تعالى- نتناول وجها من وجوه إثبات عظمة هذه الرسالة وخيرية هذه الأمة،  وهي مسألة تاريخ اليهود في ظلال الإسلام، لنرى كيف تعامل المسلمون مع قوم وصفهم القرآن الكريم بأنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، ومع هذا أمرهم بالعدل معهم والإحسان إليهم وحرَّم عليهم ظلمهم واضطهادهم. وسيبدو الأمر أكثر بروزا إذا ما قورن حال اليهود في ظل الإسلام والمسلمين بحالهم في ظل غيره من الدول والأمم.

منهج إلزام الحجة

وقد اخترنا أن نسلك في هذا البحث مسلكا صعبا، لكنه أبلغ حجة، إذ سنعرض لتاريخ اليهود في ظل الإسلام من خلال أقوال المستشرقين والمؤرخين الغربيين وحسب، ومن بين هؤلاء جملة من المتعصبين بل ومن اليهود والصهاينة أنفسهم، فيكون هذا من نوع {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26]، وقد سرنا في النقل هنا على هذا المنهج:

1. شمل النقل مستشرقين وغربيين من شتى الاتجاهات والعصور، لكن الذي يجمعهم أن أحدا منهم لم يدخل في الإسلام، وأن هذه المواد كلها كُتِبَتْ في زمان استضعاف المسلمين وسيادة الاستعمار (منذ القرن التاسع عشر حتى الآن) مما لا يمكن اتهامها بالنفاق أو التزلف، ثم إنها جميعا كُتِبَتْ في الأصل للغربيين فلا مجال فيها للمحاباة أو التجمل.. وذلك ليكون أبلغ في الحجة.

2. اكتفينا من النقل بموقع الشاهد من البحث ولم نعلق على شيء إلا في أحيان نادرة للغاية، وتركنا التعليق سواء أوافقنا المستشرق فيما قال أم خالفناه أم كان ثمة تحفظ، إذ لا يتسع المقام لمناقشة عميقة للرأي المفصل للمستشرق. والمقام هنا مقام إلزام بالحجة لا مقام تدقيق تاريخي في الوقائع وتحليلها.

3. أكثر المستشرقين بخيل في الإنصاف، فسرعان ما يلحق قوله بالاستثناء والاستدراك، أو أنه يصوغ عبارته من الأصل بحيث لا تؤدي معنى الإنصاف بوضوح، إلا أن حقائق التاريخ كانت أثبت من محاولاتهم، فنقلنا ما في كلامهم من اعتراف بهذه الحقائق إذ هو مقصود البحث، وتركنا مناقشة أساليبهم في التشغيب على الحقيقة لدراسة قادمة أكثر توسعا وتفصيلا إن شاء الله.

4. أثبتنا هنا ما كان فيه اليهود عبر التاريخ الإسلامي من سعة وحسن حال، بصرف النظر عما إن كانت السلطة تفعل هذا تنفيذا لأوامر الإسلام أم تجاوزا لها، إذ المقام هنا تاريخي لا شرعي، فكثيرا ما بزغ نجم اليهود في بعض الأحقاب حتى تسلطوا على المسلمين وبلغوا ما لا يجوز لهم شرعا من المكانة وتسببوا في أزمات وتوترات اجتماعية، فذكرنا في هذه الدراسة ذلك ولم نعلق على الأمر بحكم الشرع فيه.

5. والقصد من هذا البحث كله إثبات أن اليهود لم يتعرضوا لاضطهاد مخصوص في التاريخ الإسلامي لكونهم يهودا، ولم تمنعهم يهوديتهم من تولي الوظائف أو ممارسة الأنشطة أو الاقتراب من السلاطين.

6. اخترنا في العرض الأحقاب الكبرى في التاريخ الإسلامي: الراشدي والأموي والعباسي والعثماني، مع إلقاء ضوء على المغرب والأندلس، واخترنا من النقولات ما كان عاما على ما كان مفصلا أو جزئيا، وأدرجنا ما كان في دول صغيرة ضمن هذه الأحقاب الكبيرة طبقا لما يسمح به المقام.

المقارنة الكاشفة

قال اليهودي الصهيوني المصري إيلي ليفي أبو عسل في كتابه "يقظة العالم اليهودي" الذي هو بمثابة الدعاية للمشروع الصهيوني مُقِرًّا بالحقيقة التاريخية:

"لسنا نعجب إذا رأينا ذلك التسامح النبيل الذي تجلى من جانب العرب المسلمين نحو اليهود، ولسنا ندهش له، لأننا نرى له سببا طبيعيا وجنوحا غريزيا إليه، فهو مظهر من مظاهر الميل الفطري والعنصري لائتلاف طباعهم، وتلائم أميالهم ونزعاتهم، فكان العرب في كل مكان وزمان يعاشرون اليهود معاشرة قائمة على الإخلاص وحسن النية، ويجري اليهود معهم على منهج وفي قويم لا شائبة فيه ولا دنس، لذلك قلما كان يجد اليهود عطفا شريفا يضارع عطف العرب عليهم لدى الأمم الأخرى. فإذن لييس بعجيب إذا اندمج هذان العنصران، لأنهما خلقا من جوهر واحد، ونزلا من سلالة واحدة وهي سلالة إبراهيم عليه السلام... قضى ناموس الارتقاء وتنازع البقاء والانتخاب الطبيعي بشد أزر القوي وسحق الضعيف، ولما كان اليهود في كل مكان لم يُؤلفوا إلا أقليات ضئيلة، فكان طبيعيا أن وجودهم والحالة هذه لم يكن قائما على عوامل سياسية أو طبيعية، بل على روح تسامح الأهلين المتاخمين لهم"[2].

وذات الحقيقة يقررها المؤرخ الإسرائيلي المعروف صموئيل أتينجر، وهو أستاذ للتاريخ اليهودي بالجامعة العربية في القدس، فيقول:

"عاش يهود المشرق الإسلامي على مدى ما يقرب من ألف ومائتي عام تحت حكم الإسلام، وأطلق عليهم طيلة هذه الفترة اسم "أهل الذمة". وكان يحق لهم ممارسة شعائرهم الدينية في مقابل الجزية التي كانوا يدفعونها للسلطات التي كانت تتولى حماية ممتلكاتهم، واتسمت علاقة اليهود بالمجتمع المحيط بهم بقدر كبير من الاستقرار، ولكننا نستثني بالطبع بعض الحالات التي تعرض اليهود فيها لبعض المضايقات... وكان وضع يهود الشرق أفضل بكثير من وضع يهود أوروبا الذين اضطهدوا لأسباب سياسية واقتصادية ودينية، فكثيرا ما كانوا يُطردون من البلدان التي أقاموا فيها، في حين لم يتعرض يهود بلدان الشرق لنفس المصير"[3].

ومن سينظر إلى التاريخ سيجد، كما يقول المستشرق الألماني المعروف آدم متز، أن "أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية وبين أوروبا التي كانت كلها على المسيحية في العصور الوسطى وجود عدد هائل من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين"[4].

وما كان ذلك ليوجد لولا كلمة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] كما تفسر المستشرقة الألمانية الشهيرة زيجريد هونكه، والتي تضيف "وبناء على ذلك فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام. فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصبي الديني وأفظعها، سُمِح لهم جميعا دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون  لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى. أوليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال ومتى؟ ومن ذا الذي لم يتنفس الصعداء بعد الاضطهاد البيزنطي الصارخ وبعد فظائع الإسبان واضطهادات اليهود؟"[5].

والخلاصة، كما يجملها المستشرق وعالم الاجتماع الفرنسي الشهير جوستاف لوبون، هي أن "مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية، وأنه لم يَقُلْ بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على الخصوص، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سُنَّتِه، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوربا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أنعموا النظر في تاريخ العرب"[6].

في المقال القادم إن شاء الله نبدأ باستعراض أحوال اليهود في عهود التاريخ الإسلامي، فالله المستعان.



[1] أحمد (8952) والحاكم (4221) وقال: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني (السلسة الصحيحة 45).
[2] إيلي ليفي أبو عسل، يقظة العالم اليهودي، (القاهرة: دار الفضيلة، بدون تاريخ)، ص96، 97.
[3] صموئيل أتينجر، اليهود في البلدان الإسلامية، ترجمة: د. جمال أحمد الرفاعي، مراجعة: د. رشا عبد الله الشامي، سلسلة عالم المعرفة 197، (الكويت: المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، مايو 2001م)، ص45.
[4] آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، ط3 (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1957م)، 1/75.
[5] زيجريد هونكه، شمس الله تسطع على الغرب، ترجمة: فاروق بيضون وكمال دسوقي، ط10 (بيروت: دار صادر، 2002م)، ص364.
[6] جوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة: عادل زعيتر، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م)، ص128.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق