الجمعة، ديسمبر 30، 2016

قبل أن تسقط القاهرة

تدور الأيام لتعود ذكرى سقوط الأندلس (2 يناير 1492م)، ويتجدد معها الألم التاريخي الموصول بسقوط البقعة التي أشرقت بالإسلام فكان لها في تاريخ الحضارة صفحة لم تكن لها لا قبل الإسلام ولا بعده، وقد يثور الخيال: ترى هل كان الأندلسي الذي يعيش في قرطبة زمن عبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر والمنصور بن أبي عامر يتصور أن يخرج الإسلام من الأندلس؟! لا ريب أنه أمرٌ بعيدٌ لا يخطر بالبال، ولكنه حصل، وأقرب منه الآن أن يتصور الواحد في زماننا الآن: سقوط القاهرة!

لعل كثيرا من الناس لا ينتبه إلى أن السقوط أمام العدو الأجنبي سبقته مرحلة أخرى، أهم ملامح هذه المرحلة هو وجود حكم مستبد في الداخل وهو تابع ذليل للعدو الأجنبي، فالطغاة شرط الغزاة، إذ المستبد يمهد الطريق لتسليم البلاد للأجنبي، وهو يبيع منها بالقطعة قبل أن يأكلها العدو بالجملة، ويقدم التنازل طلبا للرضا متوهما أنه بهذا يحفظ عرشه لنفسه، وفي هذا الزمن يستولي الحكام على أموال الناس بشتى أنواع الضرائب والمكوس، ويتفننون في هذا ويخترعون، حتى يصير على كل نشاط ضريبة!! ثم يذهب معظم هذا إلى العدو على صورة الهدايا والجزية (أو ما يسمى في زماننا الآن: التزامات دولية).

ولقد وصف ابن حزم، وهو أندلسي عاش في زمن ملوك الطوائف، أولئك الحكام وأفعالهم بقوله "هي جزية على رءوس المسلمين يسمونها بالقطيع، ويؤدونها مشاهرة وضريبة على أموالهم من الغنم والبقر والدواب والنحل، يرسم على كل رأس، وعلى كل خلية شيء ما، وقبالات ما، تؤدى على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد. هذا كل ما يقبضه المتغلبون اليوم، وهذا هو هتك الأستار ونقض شرائع الإسلام وحل عراه عروة عروة، وإحداث دين جديد، والتخلي من الله عز وجل. والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسارى إلى بلادهم، ... وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه"[1].

أضف إلى هذا أن أولئك الحكام يستعينون بالأجنبي على أخيهم المسلم ولو كان من أرحامهم، ونحن نستطيع أن ننقل من نصوص هذه الاتفاقيات عبارات مخزية فاضحة، فهذا يوسف بن المولى يقود تمردا على ملك غرناطة محمد بن الأيسر مستعينا بملك قشتالة، وذلك قبل سقوط غرناطة بستين سنة، فيُكتب في الاتفاقية التي عقدت بينهما قبل المساعدة هذه العبارات[2]:

"مولانا السلطان المعظم دون جوان، سلطان قشتالة وليون، الذي هو رأس اشبانية، فاستعنَّا بحزمته ونصرته، وكبير سلطانه، وجئنا له بالخضوع... وهو بجيش عظيم وقدرة كبيرة، ليكون مولانا السلطان المذكور عونا لنا على أخذ الملك من يديه محمد الأيسر... وأن نكونوا نحن عوضا منه في الملك، خُدَّاما ومتاعا لمولانا السلطان صاحب قشتالة، بمعاونته وحزمته، وبما أظهر علينا من جاهه وإحسانه ونصرته... فنحن نشهد على أنفسنا أننا خداما لمولانا السلطان صاحب قشتالة من الآن إلى ما يأتي بعد، مَلَكْنا المُلك أو لم نملكوه، وخدمتنا له بِنِيَّتنا وقدر استطاعتنا في جميع الأمور بعضها وكلها، ونشرط ونشهد على أنفسنا أننا إذا تمهد لنا ملكنا، ودخلنا دار ملكنا الكريم، أن نحرر جميع الأسارى الذين بملكنا من النصارى في حضرتنا العلية، وجميع بلادنا النصرية[3]... ونشترط أداء عشرين ألف دينار من الذهب العين البلدي الوازن في كل سنة، موصلة ليدي مولانا السلطان حيث ما يكون من بلاده ومواضعه وحصونه، حتى يستقر بيده الكريمة مع من نستثيقوه ونطمئنوا فيه من خدامنا وقوادنا. ونشترط ونشهد على أنفسنا معاونة مولانا السلطان بألف فارس وخمسمائة فارس مسلحون من فرساننا بمرتبنا ونعمتنا، نوجهوهم له للموضع الذي يحتاجهم فيه من بلاده لمحاربة من يريد محاربته ومعاندته ومنازعته، نصارى كانوا أو مسلمون، ونشرط ونشهد على أنفسنا أنه إذا احتاجنا لمخاطبتنا فنتوجه إليه بأنفسنا وجيوشنا إلى الكُرتس[4] الذي يكون فيه في البلاد والمواضع... ونشهد ونشرط على أنفسنا مهمى توجه نصرانيا أصليا إلى خدمتنا فنردوه إلى مولانا صاحب قشتالة لأقرب وقت، ولا سبيل له إلى أن يقيم معنا بوجه ولا بحال، بل نردوه بكتابنا لمولانا السلطان يقع نظره الجميل فيه. فهذا الشروط كلها نشترطوا بها على أنفسنا، ونلزموا أنفسنا ما يلزم في كل ما قلناه، ونحلف أننا نوفوا بما قلنا على أتم الكمال، الذي يرضاه مولانا السلطان صاحب قشتالة، فنقولوا بالله الذي لا إلاه إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، وبحق محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وبحق القرآن العظيم الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"[5].

وحين يأتي الاحتلال لا يبحث الحكام الذين ملكوا البلاد ونهبوا أموالها واستعبدوا ناسها إلا عن مصالحهم الخاصة، فهم يسلمونها للأجنبي المحتل طمعا في النجاة بأنفسهم، وقد أورد مؤرخ زمن سقوط غرناطة في كتابه "نبذة العصر" أن مفاوضات سرية كانت قائمة بين أمير غرناطة ورجال بلاطه وبين فرناندو، مفادها أن يسعى أمير غرناطة لإقناع أهلها بالاستسلام والاتفاق على تسليم المدينة، وقد كان أمير غرناطة يريد الاستسلام ولكنه يخشى من أهل غرناطة، ولهذا أوقف فرناندو الغارات مع تشديد الحصار[6]، ولنا أن نتصور طبيعة حرب يخوضها أمير بهذه النية في التسليم، ولنا أن نتصور كذلك ما لو كان مكانه أمير مناضل يعزم على الدفاع عن قلعة الإسلام الأخيرة في الأندلس.

وقد كان مؤرخ الأندلس الفذ محمد عبد الله عنان يرتاب في هذه الرواية إلى أن ثبت له صحتها باطلاعه على وثائق اكتُشِفت من تلك الفترة، وتبين أنه في نفس اللحظة التي عُقدت فيها معاهدة تسليم غرناطة كانت معاهدة سرية أخرى تُعقد ويُمنح فيها أمير غرناطة وأسرته ورجال حاشيته "منحا خاصة بين ضياع وأموال نقدية وحقوق مالية وغيرها"، ثم إنهم منذ بدأت الأحداث الأخيرة سعى أمير غرناطة ورجاله في بيع أملاكهم"[7].

هذه صفحة من التاريخ يجب أن نقرأها لنتفهم منها صفحتنا في هذا الحاضر، قبل أن تكون صفحتنا هذه شبيهة في تاريخ الزمن بصفحة سقوط الأندلس!

إن ما يحدث في القاهرة الآن شيء مروع، شيئ يذهب بالأبصار إلى مصير السقوط الأندلسي، فنحن لا نزال منذ حكمنا العسكر والبلاد تنقص شيئا فشيئا، خسرنا السودان وغزة وسيناء ومؤخرا جزر تيران وصنافير (لا لصالح السعودية كما يوهموننا، بل لصالح إسرائيل بمال سعودي ولتدخل السعودية في مهمة حماية أمن إسرائيل طبقا لإلزامات كامب ديفيد) وحقول الغاز في المتوسط، فضلا عن خسران السيادة في قلب القاهرة، والتزام قطاعات الدبلوماسية الخارجية والاقتصاد والتصنيع والإعلام والتعليم بالإرادة الأمريكية الإسرائيلية، ثم ضرب كافة مقومات المقاومة في المجتمع، وتدمير تماسكه الاجتماعي!

إن نظرة عابرة لما يفعله العسكر في مصر تدل على شيء واحد: إنما هو تمهيد البلاد حتى تأتي اللحظة التي يستلمها فيه الاحتلال بنفسه!

ترى هل سيكتب التاريخ أننا الآن في زمان ما قبل سقوط القاهرة؟!!




[1] ابن حزم، رسائل ابن حزم، تحقيق: د. إحسان عباس، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية، 1981م)، 3/176 (رسالة: التلخيص لوجوه التخليص).
[2] نحن ننقل نصا من الوثيقة على ما فيه من ركاكة وأخطاء في القواعد والإملاء.
[3] أي جميع مملكة غرناطة، وليس فقط الأسرى النصارى في مدينة غرناطة.
[4] الكورتس هو المجلس الذي يحضره رؤساء الولايات التابعة للمملكة، فحضوره هو اعتراف بأنه والٍ في مملكة اسبانيا تابع للملك خوان وليس ندًّا أو ملكا مستقلا.
[5] انظر النص الكامل للوثيقة في: محمد عبد الله عنان، وثيقة أندلسية قشتالية من القرن التاسع الهجري، مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، المجلد الثاني، 1954م، ص38 وما بعدها.
[6] مجهول، نبذة العصر في أخبار ملوك بني نصر، ضبطه وعلق عليه: ألفريد البستاني، ط1 (بورسعيد: مكتبة الثقافة الدينية، 2002م)، ص123.
[7] محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس، ط4 (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1997م)، 7/241، 242.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق