الجمعة، أكتوبر 21، 2016

أصحاب الثأر وأصحاب الثورة

لا يخفى على متابع مدى حالة الغضب المتفجرة في صفوف الشعب المصري، فهو أوشك بكونه ساحة من البنزين تنتظر وقوع الشرارة، أو هو كما قال نصر بن سيار قديما:
أرى بين الرماد وميض جمر .. فيوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكو .. وإن الحرب أولها الكلام

وإني أتفهم تشكك بعض الأصوات من الدعوات إلى موجة ثورية قادمة، وقد يكون في كلامهم شيء من الحق، أتفهم هذا مع رفضي الكامل له، ذلك أن الذي يبدأ الشرر لا يستطيع بالضرورة أن يسيطر على الحريق، ويمكن لمؤامرة أن تنقلب على صاحبها، وكم حصل هذا في التاريخ وفي الواقع بل وفي حياتنا الشخصية المحدودة، وقد قال الله تعالى {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، وقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

أتفهم كذلك أن تخرج بعض الأصوات تُذَكِّر الجوعى والفقراء الذين مسَّهم الضُرُّ بأفعالهم في خدمة حكم العسكر بدءا من ضرب المظاهرات وحتى الرقص في الانتخابات، وتبدي لونا من الشماتة والفرح فيما حلَّ بهم من فقر وقهر وجوع وذل، وإلى هؤلاء يتوجه هذا المقال.

(1) بين الثأر والثورة

بين الثائر وصاحب الثأر فارق دقيق ولكنه عميق، وله آثار واسعة..

لا يزال الثائر صاحب فكرة ورسالة، يرى العسكر أعداءه، ويعرف أنهم العدو الأصيل ورأس الأفعى، ولا يرضى في سعيه بأقل من حلم إسقاط النظام وتحقيق أحلام الشهداء والأسرى والمظلومين. بينما صاحب الثأر ثائر قديم أصابته جراحات في حلمه وعزمه (وهذا متوقع، ومفهوم) فلم يعد يحلم بإسقاط النظام بل يكفيه من كل هذه المعركة إخراج أصحابه الأسرى وأمن أصحابه المطاردين، ثم ليضرب الله الظالمين من العسكر بالظالمين من الشعب، ولتخرب البلد على رؤوسهم جميعا!

الثائر يعرف أنه في سبيل مكافحة الظالمين ستأتيه الطعنات من مظلومين حوَّلَهم الظلم والجهل والفقر إلى حراس للاستبداد، وهو وإن واجههم وقاتلهم أحيانا فإنما يشفق عليهم ويرجو تغيير حالهم وإصلاح أمرهم، فذلك هو منطق الثورة وغايتها، وليس من منطقها ولا من طبيعتها أنهم إذا خذلوها في جولة أن تخذلهم هي في جولة أخرى. بينما صاحب الثأر مصدوم من هؤلاء ساخط عليهم يراهم أداة غدر قذرة استعملها العدو في قتل أهله وإخوانه وأصحابه، وبهم قضى على حلم عظيم كان سيغير أحوالهم هم إلى أحسن حال.

الثائر لم يزل واسع الأمل واسع الاحتمال يطير إلى كل بارقة أمل فيثمرها وينميها ويعمل على تحويلها إلى موجة ثورية جديدة، لا يهتم بأسباب عودة العائدين إلى خزان الغضب الثوري إلا لأجل أن يثمر الثورة ويشعلها وينميها ويحفظها من أن ترتد على أعقابها مرة أخرى. بينما صاحب الثأر يبذل لهم الشماتة ويوجه لهم التأنيب والتقريع، ويفرح لهم بالمزيد من العذاب جزاء بما كسبت أيديهم، ولئن ثار هؤلاء فليس يهمه من كل هذا إلا أن يذوقوا بعضا من المعاناة التي ذاقها وأذاقوها له، ولا يأمل من ثورتهم إلا إخراج الأسرى وعودة المطاردين.

فمن أنت؟!

صاحب ثأر أم صاحب ثورة؟!

(2) إلى صاحب الثأر

حتى صاحب الثأر، لو هدأ قليلا وتفكر في الأمر، لَعَرَف أن هؤلاء إنما كانوا أداة بيد عدوه، وليسوا هم العدو نفسه، وإنما الثأر الحقيقي عند هذا العدو لا عند أدواته، وهو الآن في فرصة من يمكنه استثمار غضب أولئك وتحويلهم إلى أداة في يده، أداة لتحصيل الثأر إن لم يكن تحصيل الثورة.

لئن لم يكن ممكنا تغيير حال هؤلاء إلى الأفضل كما هو منطق وغرض صاحب الثورة، فإن تحويلهم من أداة للعدو إلى أداة ضده هو المنطق الذي يفترض أن يحمله صاحب الثأر!

إذا انتقل سيف قُتِل به أخوك إليك، فإن تكسيره ليس أخذا بالثأر، الثأر أن تحمل هذا السيف على من حمله عليك، فذلك مَثَل هؤلاء!

إن الشماتة في هؤلاء والتلذذ بمعاناتهم لا تأتي بالثأر، بل في الواقع فإن من يعجبه ترك هؤلاء لمصيرهم البائس، فإنه يعلن على الحقيقة تخليه عن الثورة وعن الثأر معا!

(3) الخطيئة الخطيرة

أخطر ما يقع فيه الثوار أن يدخلوا في عداء مع الناس، فإنهم قُوتُهم وقُوَّتُهم وحاضنتهم ومددهم، وليس لهم بعد الله إلا الناس.

وتلك خلاصة التجربة الجهادية، فبعد استعراض تاريخي طويل قرر المؤرخ والمنظر الجهادي الأبرز أبو مصعب السوري –في كتابه الضخم: دعوة المقاومة الإسلامية العالمية- أن الحركات الجهادية إنما فشلت في مواجهة الحرب العالمية لأن فكرة الجهاد كانت نخبوية ولم تكن فكرة متغلغلة في صفوف الأمة، وذلك من الأخطاء الفادحة الحركات الإسلامية، وهو بعد استعراض التاريخ الإسلامي استخلص هذه المعادلات:

·       الحملات الصليبية الأولى:
1.    أمة الصليب × أمة الإسلام = انتصرت أمة الإسلام

·        الحملات الصليبية الثانية (مرحلة الاستعمار القديم 1800 - 1970) أسفرت عن معادلتين، واحدة للأمة وواحدة للصحوة الإسلامية:
2.    أمة الصليب + أمة اليهود × أمة الإسلام = انتصرت أمة الإسلام (رحل الاستعمار)
3.    أمة الصليب + أمة اليهود + الحكومات العميلة × الصحوة الإسلامية = هُزِمت الصحوة (وخرجت الأمة من المعركة)

·       الحملات الصليبية الثالثة (المرحلة الأمريكية 1990 - 2003)
4.    أمة الصليب + أمة اليهود + الحكومات العميلة + المنافقين "علماء السوء ومن فسدوا من قيادات الصحوة" × التيار الجهادي = هزيمة التيار الجهادي وشلل الصحوة (وبقيت الأمة خارج المعركة).

وخلص من هذه المعادلات الأربع إلى ضرورة حشد الأمة كلها في المعركة، وإلا فإن الهزيمة هي النتيجة الحتمية[1].

إن العلاقة بين الثائرين وبين الناس كالعلاقة بين الأب وابنه، لا يسع الواحد فيهما أن ينفصل عن الآخر إلا إن استحال الاجتماع، ويبذل كل منهما جهده في حمل الآخر على رأيه إذ يراه الأهدى والأقوم سبيلا، ولئن بدا أن أحدهما يراجع نفسه ويرجع إلى الآخر فليس من منطق هذه العلاقة ولا طبيعتها أن يجد ردًّا وصدودا.

(4) المصير الواحد

لقد حذَّرنا الله تبارك وتعالى من أن ترك المفسدين لن يؤدي إلى هلاك المفسدين وحدهم، بل سيهلك معهم سائر من كان يستطيع ردعهم ولم يفعل.

قال تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم"[2]، وسُئل النبي يوما: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم إذا كَثُر الخبث"[3].

لو كان المفسدون يهلكون وحدهم لارتاح المرء من عناء التفكير، لكن الله قضى غير ذلك، ولهذا فصاحب الثأر ليس بعيدا عن المصير البائس الذي ينتظر الجميع، المصير الذي سيذوقه الجميع إذا كثر الخبث، وربما كان الحكام المجرمون أحسن الناس حالا إذا استطاعوا النجاة بأنفسهم وأموالهم وقضوا بقية حياتهم في أوروبا أو الخليج بما معهم من أموال نهبوها.

إن رجوع البعض إلى صف الغضب والثورة ولو بسبب الجوع والفقر لا بسبب الدماء هي فرصة نكاثر بها المجرمين ونغالب بها الخبث قبل أن يزيد ويستفحل، وننقذ أنفسنا وأهلنا من مصير أسود سيتناول الجميع ولن يستثني أحدا. وعامل الإنقاذ لا يبالي أي يد امتدت إليه وهو في تلك المهمة!

(5) هل نملك الاختيار؟

هل نملك رفاهية أن نترك الناس إذ عادوا بأثر الفقر والجوع؟

إن تركنا لهم لن يؤدي إلى إرجاع الحقوق، ولن ينجينا من المصير البائس المنتظر، لكن الأسوأ من هذا كله أن العدو المجرم قد يرى نجاته في أن يسلط الناسَ بعضهم على بعض، فيجعل غضبتهم له وعليهم، ويجعل بأسهم على أنفسهم!
كل طاغية فيه تلك الخصلة من فرعون {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4].

إذا لم يسبق الثوار إلى الناس فوجهوا غضبتهم إلى السلطة، فإن السلطة ستوجه غضبهم إلى فئة منهم تحملها مسؤولية كل ما يجري من كوارث، فينهبونها وينهشونها ويظلمونها، فإذا انتهوا منها أخرج لهم طائفة أخرى ينفذون فيها غضبهم وسطوتهم، وهكذا دواليك!

أو قد يكون الحل إقليميا أو دوليا، مسرحية يُستبدل بها السيسي كما استُبْدِل مبارك، ويأتي آخر يعطي الناس جرعة من التخدير وبعضا من الأمل لا أكثر، وتستمر دولة الطغيان وحكم العسكر. ونحتاج سنوات أخرى حتى ينشأ في الناس غضب يمكن تحويله إلى ثورة!

ألا ترى، بعد هذا كله، أن صاحب الثورة وصاحب الثأر مضطر بالضرورة إلى التفاعل مع غضب الجوعى والمقهورين بما يعيدها ثورة جذعة تأكل الطغيان والإجرام وتنسف جبال الظلم نسفا؟!




[1] أبو مصعب السوري، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، نسخة إلكترونية (2006م)، ص626.
[2] الترمذي (2169) وقال: حديث حسن، وأحمد (23349)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (7070).
[3] البخاري (3168)، ومسلم (2880).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق