السبت، أغسطس 20، 2016

القاهرة.. عاصمة الثورة الإسلامية

ينبغي التنبيه بداية أن هذا المقال وإن كتبه مصري فإن منطلقه وهدفه ليس لها أدنى علاقة بنظرة وطنية أو قومية أو عنصرية، إنما المنطلق والهدف هو مصلحة الأمة الإسلامية ككل، فيها كل المسلمين إخوة، لا فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، ومن الإخلاص للأمة ألا يكتم مصري قولا فيه شبهة وطنية لئلا يُتَّهَم بالعنصرية، وقد تعلمنا من علمائنا أن "ترك العمل لأجل الناس رياء".

(1) العواصم

بُعِث النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة، وما ذلك إلا لأنها أعز مدن العرب وأشرفها وأعلاها قدرا، فإذا اعتنقت مكة دينا تبعها عليه سائر العرب، ومن مكة انتشرت عبادة الأصنام في الجزيرة العربية حين أتى سيدها في الجاهلية عمرو بن لحي الخزاعي بصنم لأول مرة، وكانت سيرة النبي كلها تدور حول مكة، فقد بذل كل الجهد مع أشرافها لاعتناق الدين، فلما أبوا وخرج إلى المدينة مهاجرا كانت كل معاركه تدور حول مكة، وحين اعترفت مكة بدولة المدينة في اتفاقية الحديبية سمَّى الله ذلك "فتحا مبينا"، وحين فُتِحت مكة كان ذلك هو "الفتح الأعظم"، وعندئذ فقط: جاءت قبائل العرب تدخل في دين الله أفواجا.

ومما هو من قواعد الحياة وسير التاريخ أن نصر دولة على أخرى إنما هو اللحظة التي تسقط فيها العاصمة، وطالما بقيت العاصمة تقاوم فالحرب لم تنته بعد، والثورة تنجح حين تسيطر على العاصمة، وتفشل إن لم تنجح في هذا، والمعارك الكبرى في التاريخ هي معارك العاصمة (سواء معركة السيطرة عليها أو المعركة التي يهلك فيها الجيش الرئيسي فينفتح الطريق إلى العاصمة).. وهذا أمر لا نطيل فيه، إذ التطويل تكرار وإعادة لما هو معروف.

ونحن حين ننظر إلى الأمة الإسلامية الآن، ونحاول تعداد العواصم الكبرى المهمة فيها، والتي يؤثر تغير الحال فيها على حال الأمة كله، أقول: إذا عددنا العواصم فلن يمكن بحال تجاوز القاهرة، وقد رأيت بنفسي تعلق المسلمين من أقاصي الشرق والغرب بأحوال مصر، وسمعت من الحكايات الكثير الكثير حول آمال انفجرت وأحوال تغيرت مع نجاح الثورة المصرية وحول آمال تحطمت وأحوال انتكست مع الانقلاب العسكري في مصر.

(2) مصر.. تعدل الخلافة

منذ بدأ تاريخ الإسلام ولمصر مكانتها، ويشتهر جدا قول عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص والذي سجلته كتب فضائل مصر: "ولاية مصر جامعة، تعدل الخلافة".

وفي التاريخ عقدة مشهورة، فأي ثائر أو صاحب مشروع أو مؤسس لدولة تواجهه عقبة المال والرجال، فهو محتاج إلى مال ينفقه على الرجال الذين ينطلق بهم في ثورته أو في تأسيس دولته، فإذا اتسع نفوذه ازدادت حاجته إلى الرجال لحفظ الدولة، فتزداد حاجته إلى المال للإنفاق على الرجال، فيضطر إلى التوسع للتحصل على موارد وأموال، فيحتاج التوسع إلى رجال أكثر.. وهكذا!

لكن بعض البلاد لا تخضع لهذه القاعدة، وعلى رأس هذه البلاد مصر، فإنها لما فيها من أموال وافرة تستطيع دائما تمويل كل مشروع وكل دولة، فمصر دائما مخزن المال والرجال، ولذلك فما إن يسيطر عليها حاكم إلا ويستطيع تكوين جيش فيكون بمثابة الخليفة، ويكون مستقلا على الحقيقة بل ويكون أقوى من الخليفة نفسه. وكثيرا ما وقفت مصر هذا الموقف، فعندما ضعفت الخلافة العباسية تولت مصر "الطولونية" حكم الشام وحماية الثغور وجهاد الروم، واستمر هذا في عهد الطولونيين، ثم في عهد العبيديين الفاطميين الذين نشأت دولتهم في المغرب لكنها لم تزدهر وتستقر إلا في مصر.

ولم تستطع الشام مقاومة الحملات الصليبية إلا حين أضيفت قوة مصر إلى قوة الشام، وكان السباق بين الصليبيين وأهل الشام على مصر سباقا استراتيجيا شرسا بكل معاني الكلمة، كلا الطرفين يعلم أن من سيسبق إلى مصر ستكون له الكلمة العليا في الشام، وقد سبق نور الدين زنكي برجاله الأيوبيين ثم لم تعد مسألة تحرير بيت المقدس إلا مسألة وقت.

في ذلك الوقت نشأت أول فكرة استراتيجية ما تزال حاضرة حتى هذه اللحظة، لقد انتقل الصراع بين الإسلام والغرب ليكون حول مصر أولا، فمنذ الحملة الصليبية الخامسة وحتى لحظة كتابة هذه السطور كان الصراع الإسلامي الغربي يبدأ بالسيطرة على مصر، واستطاعت مصر صد الحملة الصليبية الخامسة والسابعة فانتهت بذلك الحملات الصليبية الكبرى، وصار تطهير الشام أيضا مسألة وقت.

وانكسر المغول عند مصر ولم يكرروا المحاولة، وانتقلت الخلافة من بغداد إلى القاهرة وظلت فيها نحو ثلاثة قرون، حتى تيمور لنك توقف عند دمشق التي لم يستطع أن يدخلها إلا بعد انسحاب الجيش المصري (لأن القاهرة شهدت انقلابا عسكريا خائنا آنذاك)، ثم لم يفكر في التوغل إلى مصر.

(3) الحروب الصليبية.. مستمرة

لما انتهت الحروب الصليبية كلَّفت الكنيسة المؤرخ الإيطالي مارينو صاندو تورسيللو بكتابة تاريخ للحروب الصليبية وتحليل لأسباب الفشل، فأخرج ثلاثة عشر مجلدا، جعل توصياته في المجلد الأخير، وكانت توصيته الرئيسية أنه إذا أراد الغرب تكرار المحاولة فعليه أن يبدأ بمصر، لأن الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه الحروب الصليبية أنها انطلقت إلى الشام، ونسيت مصر التي كان بإمكانها دائما أن تغذي حركة الجهاد في الشام بالمال والرجال.

وقد عملت أوروبا بالوصية، فجاءت الحملة الفرنسية إلى مصر أولا، ولما تمكنت من مصر استدارت إلى الشام، ومنذ ذلك التاريخ لم يتمكن الغرب من الشام إلا اعتمادا على المجهود المصري والدم المصري والمال المصري، وما ذلك إلا لأن السلطة المصرية كانت سلطة غربية تمثل الغرب وترعى مصالحه!

حتى ذلك الوقت لم تتلق الدولة العثمانية هزائم كالتي تلقتها على يد جيش محمد علي الذي انطلق من القاهرة فعبر الشام كلها ثم وصل إلى كوتاهية وهدد القسطنطينية ونزع من الدولة العثمانية جيشها وأسطولها في وقت واحد.
ولم يتأسس النفوذ الأجنبي في الشام إلا في ظل سلطة محمد علي، ففي ذلك الوقت افتتحت القنصليات الأجنبية وأعطي لها النفوذ الواسع، وقُلب ميزان القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لصالح الأجانب، وفي ذلك الوقت ظهرت أول محاولة جادة لإنشاء إسرائيل (بدعم ورعاية سلطة محمد علي).

ثم جاء الاحتلال الإنجليزي فنزل في مصر أولا، وقضى فيها خمسا وثلاثين عاما قبل أن يسيطر على الشام، ثم لم يسيطر على الشام وينتزع بيت المقدس إلا وفي ركابه الجيش المصري، مستعينا بالمجهود المصري والاقتصاد المصري والموارد المصرية.

ولم تنشأ إسرائيل إلا لأن دول الطوق –وأهمها: مصر- كانت محتلة، فكانت السلطة التي نصبها الاحتلال خير معين لها على القيام، وخير مكافح للمجاهدين الذين كادوا يقضون عليها، وما كانت إسرائيل لتنشأ لو لم تكن مصر محتلة! وحتى هذه اللحظة ليس لإسرائيل حماية حقيقية من خارجها أقوى من السلطة المصرية التي ظلت منذ لحظة تأسيسها تقدم أفضل المساعدة لتمكين إسرائيل ومحاربة من يقاومها.

(4) قالها كل ريتشارد: الكنز الكبير

يخبرني صديق عراقي أن الانقلابات العسكرية لم تنتشر في المنطقة العربية بعد انقلابات سوريا –أواخر الأربعينات- وإنما بعد الانقلاب العسكري في مصر 1952، يقول: مصر هي القاطرة في هذه المنطقة.

ليس الأمر معضلة، ولا هو غير واضح، بل إننا نجد هذا الكلام في تصريحات سياسيين كبار يضعون الخطط الكبرى مثل ريتشارد بيرل قبل سنوات، أو نجده في كلام رحالة إنجليزي زار مصر في منتصف القرن التاسع عشر. وبينهما آلاف ممن أفصحوا عن هذا.

لما قال ريتشارد بيرل: "العراق هدف تكتيكي، والسعودية هدف استراتيجي، أما مصر فهي الجائزة الكبرى"[1] كان كأنه يكرر قول سَمِيِّه ريتشارد بيرتون الرحالة الإنجليزي: "أي دولة تضمن السيطرة على مصر تكون قد ربحت كنزا، فمصر تحيطها البحار من الشمال والجنوب، وتحيطها الصحراء التي لا يمكن اجتيازها من الشرق والغرب، ومصر قادرة على تجهيز 180 ألف مقاتل، وقادرة على دفع ضرائب ثقيلة، ويمكن أن تقدم فائضا كبيرا، فلو وقعت مصر في أيدي الغرب سهلت السيطرة على الهند، ومَكَّنت من فتح إفريقيا الشرقية كلها بشق قناة للسفن تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر عند السويس"[2].

ها هو ريتشارد المعاصر يحدد لنا عواصم العرب، وها هو ريتشارد القديم يعدد لنا فوائد السيطرة على القاهرة.

فإذا تحررت القاهرة، كان ذلك أول تحرير بقية العواصم.. ولهذا اجتمع كل مستبد وكل محتل على ثورة مصر لكي يُجهض الوليد قبل أن يولد، ولذا فلست أشك لحظة أن هذه الأمة إن كان لها خليفة أو كان ثمة من ينظر إلى المشهد من فوق ويمكنه تحريك الطاقات لوضع طاقاته كلها في معركة القاهرة.. فإنها معركة الثورة الإسلامية جميعا.




[1] أحمد منصور، قصة سقوط بغداد، ط6 (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2004م)، ص51. (وهو ينقل عن تقرير هآارتس بتاريخ 15 نوفمبر 2002م).
[2] ريتشارد ف. بيرتون، رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز، ترجمة وتعليق: د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، (القاهرة: دار المعارف، 1994م)، ص98، 99.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق