الأحد، مارس 15، 2015

لماذا ينبغي أن نستشعر الكارثة من هذا المؤتمر الاقتصادي؟

بداية، فإن كاتب هذه السطور ليس متخصصا في الاقتصاد، ومعلوماته في هذا المجال لا تعدو المعلومات المأخوذة من كتب التاريخ ومذكرات الساسة والاستماع للمتخصصين بغية فهم "دور الاقتصاد في السياسة العالمية".

كذلك فإن هذه السطور موجهة لعموم الناس لا لغيرهم، ومهمتها محاولة تبسيط المشهد السياسي الذي يُراد ترسيخه، والذي يُعد هذا المؤتمر الاقتصادي واحدا من أجزائه.

(1)

مما يثير الاستغراب أن كافة التقارير المنشورة في الصحافة والمجلات السياسية الغربية على اختلاف توجهاتها توصي بأن مصر في حاجة إلى "دعم اقتصادي" وأن على الغرب تقديم هذا الدعم، حتى تلك التي لا تهتم بمستقبل السيسي.
وذلك وحده دليل على أن الهدف من المؤتمر الاقتصادي ليس مجرد دعم السيسي من عدمه، بل هو حلقة في ربط مصر أكثر وأكثر بالنظام الغربي.

ليس هذا شيئا جديدا ولا مستغربا في التاريخ..

هذا جون بركنز صاحب الكتاب الشهير "الاغتيال الاقتصادي للأمم" يشرح بوضوح أن سياسة استعمار البلدان اقتصاديا تقوم على أحد هذين الطريقين:

الأول: تقديم مشروع تحديث للبلد، بأرقام ضخمة، للإغراء بالرخاء، لكن هذه الأموال لا تصب إلا في صالح الطبقة المتنفذة الملتصقة بالغرب، فيزداد معدل النمو الاقتصادي نظريا لكن أيضا يزداد معدل الفقر، لأن كل معدلات النمو صبت في جيوب حفنة قليلة، وهذا هو التطبيق العملي للنظام الرأسمالي "أن يزيد الغنى غنى والفقير فقرا".. ثم تعجز ميزانية البلد عن سداد الديون المستحقة (فهذا الأسلوب قائم أصلا على قاعدة فساد الطبقة الحاكمة) فتباع موارد البلاد للشركات الدائنة وكذلك تباع المواقف السياسية والعسكرية.. وبهذا تكون البلد تحت السيطرة الحقيقية للدولة الأجنبية سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وتكون الطبقة الحاكمة هي الممثلة لهذا الاحتلال الأجنبي.

الثاني: في حالة كون البلد غنية الموارد لا يمكن أن تعاني من عجز عن السداد (كما في حالة السعودية وإيران في عهد الشاه) تكون الخطة هي إغراق هذه البلد في التحديث الغربي بحيث يكون معدل التطوير في البنية التحتية والعمران سريعا وواسعا وتقوم مساحات واسعة من المدن، وكل هذا بعقود فلكية تدفع فيها الأرقام الخيالية للشركات الأجنبية.. وبعد هذا التمدد العمراني والتطور التنظيمي والإداري القائم كله على النمط الغربي وعلى الشركات الغربية تعجز الدولة عن "فك الارتباط" مع هذا النظام الغربي، لأن كل نظامها قائم عليه بما فيه الصيانة والتطوير واستغلال الموارد.

وإذن، لم يكن الدعم الاقتصادي أبدا في مصلحة البلد.. بل هو في مصلحة الدول الأجنبية، ثم في مصلحة الطبقة الحاكمة المنفصلة عن مصالح الشعب والممثلة لمصالح الدولة المحتلة.

(2)

من المعروف تاريخيا أن الثورات تقوم بها "الطبقة الوسطى"، وهي الطبقة التي لديها الحد الكافي من الطعام والتعليم والثقافة، وذلك أن الطبقة الفقيرة الكادحة لا تملك من التعليم ولا من الثقافة ولا حتى من الغذاء ما يمكنها من فهم الوضع أو التفكير في ثورة. كما أن الطبقة المترفة لا تحتاج إلى ثورة بل هي في العادة عدوة الثورات وسبب اشتعالها بما ترتكبه من المظالم.

والمجتمعات السوية هي المجتمعات التي تمثل الطبقة الوسطى الغالبية فيها، وكلما زادت الطبقة الوسطى كلما كان هذا دليل صحة المجتمع وتوزع الثروة فيها على نحو عادل، بينما تآكل هذه الطبقة وزيادة عدد الفقراء واتساع الفارق بين الطبقات هو دليل انهيار مجتمعي وعلامة على أزمات وتوترات قليلة أو عنيفة.

النظام الرأسمالي يقود المجتمعات إلى إنهاء الطبقة الوسطى، ليصير المجتمع على نوعين: الغنى الفاحش والفقر المدقع، أو بتعبير أوضح: سادة وعبيد!

وهذا هو النظام القديم الذي كانت تفنى فيه الشعوب والموارد تحقيقا لرغبة الملك أو النبيل، ولم يكن من بأس في أن يتسلى النبيل بمعركة مصارعة بين العبيد أو بين العبد والأسد!

وطبقات العبيد نادرا ما تثور ضد هذا الوضع، بل على العكس، الأغلب أن يستسلمون وتظهر أفكار وعقائد وشرعيات جديدة، حتى ليخيل إليهم أن النبيل ذو دم أزرق، وأنه مكلف من السماء بأن يحكمهم، وأن النجاة في الآخرة هي في الاستسلام لحكم هذه الأسرة الحاكمة. وأحيانا قد يصدر قانون تحرير العبيد ولكن "العجز النفسي" عن الحياة في حالة الحرية يدفع العبيد إلى العودة راضين مختارين إلى أسيادهم، لأنه لا يستطيع ولا يتصور أن يعيش حرا مسؤولا عن نفسه ممتلكا لقراره.

وتاريخ الإقطاع والعبودية والتمييز الطبقي تاريخ طويل أسود معروف مشهور لا يحتاج لمزيد بيان.

(3)

إن "الدعم الاقتصادي" المكتوب في التقارير الغربية ليس دعما لصالح البلد أو الشعب، بل هو دعم لترسيخ وتمتين وتعميق هذا النظام الرأسمالي في جميع الدول، لأنه النظام الذي يحافظ على بقاء هذه الدول في حالة الاحتلال وينزع منها عوامل القوة والمقاومة.

الدول الغربية نفسها تعاني من سيطرة الاقتصاديين على النظام السياسي، وفي هذا الإطار كتبت مئات الكتب في بيان هذه المعضلة في النظام الرأسمالي (أرشح منها للقارئ كتاب الألمانية نورينا هيرتس: السيطرة الصامتة، وكتاب الأمريكي جريج بالاست: أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراؤها، وسلسلة الأفلام الوثائقية التي تتحدث عن تلاعب مصانع إنتاج السلاح بالكونجرس الأمريكي لتمرير الميزانيات الضخمة لوزارة الدفاع)..

إن أصحاب الأموال يمتلكون أجهزة أمنية وعسكرية خاصة، لكن الحيتان منهم يستطيعون تسيير مصالح الدول نحو الحروب (الحروب التي قد يفنى فيها مئات الآلاف أو الملايين من البشر) لتحقيق أهداف السيطرة الكاملة على موارد العالم.

ولذلك -وكما شرح جون بركنز بإصرار- إذا فشل رجال الاقتصاد في السيطرة على بلد ما، تحرك رجال المخابرات لتنفيذ اغتيال الرئيس أو تنفيذ انقلاب عسكري عليه، فإن فشلوا في هذا تحركت الجيوش بنفسها لتعيد الهيمنة على موارد الثروة.

لكن الجيوش الآن لا تتحرك لتبقى بنفسها كما في حال الاستعمار القديم، بل تنصب الحكومات العميلة التي تمثل مصالحها مع بقاء قواعد وحاميات عسكرية تتدخل عند اللزوم للحفاظ على هذا النظام العميل.

ومن نافلة القول أن النظام المصري هو من هذه الأنظمة الوظيفية العميلة المدعومة لتحقيق مصالح الأجنبي المحتل والحفاظ على إسرائيل ومحاربة الصحوة الإسلامية وفي مقدمتها الحركات الجهادية.

إن كثيرا من الأنظمة القائمة في دول العالم -وبخاصة في إفريقيا- تبيع موارد البلد ومواقفها وتتاجر في مستقبل الأجيال مقابل بقائها في كرسي السلطة، بل إن بعض البلاد قامت بالفعل ومنذ سنوات بتأجير بعض أراضيها لدفن النفايات النووية مقابل مبالغ مالية تصب جميعها في خزائن الطبقة الحاكمة وحدها.

هذه الأنظمة لا تسيطر إلا على العاصمة أو المنطقة الأمنية في العاصمة بالإضافة إلى موارد الثروات (حقول النفط والغاز أو مناجم الذهب والماس وغيره)، وجيوشها لا مهمة لها إلا الحفاظ على تأمين السلطة وتأمين هذه الموارد، وكثيرا ما تكون هذه الجيوش من المرتزقة الأجانب، أو قد تكون فرقا عسكرية أجنبية تابعة مباشرة للمحتل.
فيما ترزح باقي البلد في الفقر والجوع والمرض، ويتكرر ببساطة أن تصدم سيارة رجلا، فيموت، ويظل ميتا، لا يتحرك إسعاف، حتى تتقطع الجثة، وتتحلل، وتذوب في التربة.. وأصدقاؤنا المهندسون العاملون في الدول الإفريقية يمكنهم حكاية آلاف القصص على هذا النحو.

هذا النظام هو ما نحن مقبلون عليه، بإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، ومن قبله بإنشاء مناطق متخصصة مثل القرية الذكية، ومجتمعات غنية ومنفصلة عن الناس كالمدن الجديدة.

هذه العاصمة الإدارية قد وُقِّعت اتفاقية بنائها في هذا المؤتمر الاقتصادي..

من أجل كل ما سبق ينبغي أن نستشعر الكارثة الكبرى.

اقرأ:
المنطقة الخضراء المصرية عن العاصمة الإدارية الجديدة - مقال منذ يوليو 2014:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق