الثلاثاء، نوفمبر 25، 2014

دعاة في ظلال النكبة



أكتب هذه السطور ونفسي تتمزق من الأسى والحسرة، حتى لقد كانت كتابتها موضع تردد كبير، ثم قدَّرتُ أن نشرها خير من كتمانها، فلا يُظلم أبطالها مرتين: مرة بخذلان أقوامهم لهم، ومرة بسكوتنا نحن عن عظيم ما فعلوا دفعا لحرج صدورنا مما نزل بهم.

حديثنا عن أولئك الدعاة الذين لا يكاد يعرفهم أحد، أولئك الذين كانوا يدعون إلى الله في الظروف المريرة، في الذل والقهر والهزيمة، ولكنهم –وعلى عكس أي توقعات- نجحوا نجاحا غريبا مثيرا للدهشة، بل إن بعض هذا النجاح كان من غرائب التاريخ ومن الأمثلة المعدودة فيه.

***

إن سنة الله لا تحابي أحدا، فإن أخذ قوم بأسباب التمكين مُكِّنوا ولو كانوا كافرين، وإن أخذ قوم بأسباب الهزيمة هُزِموا وقُهِروا ولو كانوا مسلمين، ولقد جرى على دول الإسلام قدر الله النافذ، فمن بعد اتساع المشارق والمغارب، سقطت كثير من أرض الإسلام بيد أعدائه، وبكى رجالنا كالنساء ملكا لم يحفظوه كالرجال، فذهبت الدولة وجاء الذل والهزيمة.. ووقع الرجال في الأسر والنساء في السبي، وتمكن المجرمون من أعراضنا وحرماتنا، وصارت بنات الملوك والأميرات أسيرات جواري في بلاط المنتصر، وطُرد المسلمون من أراض عمروها إلى حيث يفرون بدينهم في الصحاري أو الجبال أو ما وسعهم من أرض الله.

إلى هذا الحد يتوقف تاريخ السياسة، ويبدأ عمل لا تلحظه عين التاريخ حتى تفاجأ بنتائجه، وذلك هو موضوعنا: الدعاة الذين أدخلوا الناس في الإسلام وهم تحت سلطان النكبة.

(1) في بلاط النورمان

نبدأ من صقلية.. تلك الأرض التي حكمها المسلمون قرنين من الزمان ثم تنازعوا وفشلوا وذهبت ريحهم وانتزعها منهم النورمان الذين هم بالأصل مرتزقة استطاعوا تكوين دولتهم في لحظة تاريخية عجيبة كان كل من حولهم فيها يعاني الفرقة والتشتت، فاستولوا على أجزاء من إيطاليا ثم انتزعوا صقلية من أيدي المسلمين.

لم يكن لهم حضارة سابقة، فأسرتهم حضارة المسلمين، فظل البلاط النورماني إسلاميا في الصورة والرسوم والنظم والترتيبات لمدة طويلة، وعاملوا المسلمين أول الأمر بنوع من التسامح لكسب ما لديهم من العلوم وللحفاظ على عمارة البلاد، ثم لم يلبث أن أبادوهم وطردوهم ولم يكن من خيار إلا التنصر.. وحتى الهرب لم يكن مستطاعا، في صورة مخففة من محاكم التفتيش التي أنشأها الإسبان بعد خمسة قرون من هذا التاريخ.

يروي الرحالة ابن جبير –الذي زار صقلية في ذلك الوقت- عن الجواري المسلمات والخدم المسلمين في قصر الملك النورماني غليوم الثاني فيقول:

"وأما جواريه وحظاياه في قصره فمسلمات كلهن. ومن أعجب ما حدثنا به خديمه المذكور -وهو يحيى بن فتيان الطراز، وهو يطرز بالذهب في طراز الملك- أن (المرأة) الإفرنجية من النصرانيات تقع في قصره فتعود مسلمة؛ تعيدها الجواري المذكورات مسلمة، وهن على تكتم من مَلِكِهِنَّ في ذلك كله ولهن في فعل الخير أمور عجيبة، وأَعْلَمَنَا (الخادم) أنه كان في هذه الجزيرة زلازل مرجفة ذُعِر لها هذا (الملك) المشرك فكان يتطلع في يقصره فلا يسمع إلا ذاكرا لله ولرسوله من نسائه وفتيانه، وربما لحقتهم دهشة عند رؤيته، فكان يقول لهم: ليذكر كل أحد منكم معبوده ومن يدين به تسكينا لهم.

وأما فتيانه الذين هم عيون دولته وأهل عمالته في ملكه فهم مسلمون، ما منهم إلا من يصوم الأشهر تطوعا وتأجرا، ويتصدق تقربا إلى الله وتزلفا، ويفتك الأسرى، ويربى الأصاغر منهم، ويزوجهم ويحسن إليه ويفعل الخير ما استطاع، وهذا كله صنع من الله عز وجل لمسلمي هذه الجزيرة وسر من أسرار اعتناء الله عز وجل بهم.

لقينا منهم بمسينة فتى اسمه عبد المسيح من وجوههم وكبرائهم بعد تقدمة رغبة منه إلينا في ذلك، فاحتفل في كرامتنا وبرنا، وأخرج إلينا عن سره المكنون بعد مراقبة منه في مجلسه أزال لها كل من كان حوله ممن يتهمه من خدامه محافظة على نفسه، فسألنا عن مكة قدسها الله وعن مشاهدها المعظمة وعن مشاهد المدينة المقدسة ومشاهد الشام فأخبرناه وهو يذوب شوقا وتحرقا، واستهدى منا بعض ما استصحبناه من الطرف المباركة من مكة والمدينة قدسهما الله ورغب في أن لا نبخل عليه بما أمكن من ذلك. وقال لنا: أنتم مدلون بإظهار الإسلام، فائزون بما قصدتم له، رابحون إن شاء الله في متجركم، ونحن كاتمون إيماننا خائفون على أنفسنا متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرا، مُعْتَقَلون في ملكة كافر بالله قد وضع في أعناقنا ربقة الرق، فغايتنا التبرك بلقاء أمثالكم من الحجاج، واستهداء أدعيتهم، والاغتباط بما نتلقاه منهم من تحف تلك المشاهد المقدسة، لنتخذها عدة للإيمان وذخيرة للأكفان، فتفطرت قلوبنا له إشفاقا ودعونا له بحسن الخاتمة وأتحفاه ببعض ما كان عندنا مما رغب فيه وأبلغ في مجازاتنا ومكافأتنا واستكتمنا سائر إخوإنه من الفتيان.

ولهم في فعل الجميل أخبار مأثورة، وفي افتكاك الأسرى صنائع عند الله مشكورة. وجميع خدمتهم على مثل أحوالهم. ومن عجيب شأن هؤلاء الفتيان أنهم يحضرون عند مولاهم فيحين وقت الصلاة فيخرجون أفذاذا (أفرادا) من مجلسه، فيقضون صلاتهم، وربما يكونون بموضع تلحقه عين ملكهم فيسترهم الله عز وجل، فلا يزالون بأعمالهم ونياتهم وبنصائحهم الباطنة للمسلمين في جهاد دائم والله ينفعهم ويجمل خلاصهم بمنه"[1].

انتهى كلام ابن جبير، فانظر كيف كانت النساء المسلمات الأسيرات يقمن بالدعوة إلى الإسلام حتى ما تدخل بينهم امرأة نصرانية إلا أسلمت! وانظر كيف يكتم الفتيان إسلامهم ولا يقصرن في النصح للمسلمين ونفعهم وإزالة ما ينزل بهم.

(2) في سلطان المغول

لم يكن من عاصفة جرت على المسلمين أشد من عاصفة المغول، أولئك القوم الجفاة الغلاظ الذين انطلقوا من أقصى الشرق يكتسحون كل شيء كأنهم الموت، يقتلون لأجل القتل، لا يرحمون من لا يستطيع حتى إيذاءهم من نساء أو أطفال أو كهول.

وسقطت حواضر الإسلام أمام صاعقة المغول، حتى سقطت عاصمة الدنيا وحاضرة الإسلام ودرة تاج المدائن: بغداد، ثم مدن الشام حتى كانت كسرتهم الأولى والأقوى على يد المماليك في عين جالوت.

ومنذ موت جنكيز خان انقسمت امبراطورية المغول إلى أربعة ممالك كبرى: المملكة الأولى في وسط آسيا، القبيلة الذهبية في القوقاز وروسيا، وفي فارس، وفي الهند، وكان من الحوادث النادرة في التاريخ أن اعتنق الغالبين عقيدة المغلوبين ودخلوا في الإسلام، فانتصرت قوة الحضارة على قوة العسكر.

لكن تحول المغول إلى الإسلام ما زال لا يُعرف عنه الكثير، غير أن بعض الشذرات تفيد أن نصيبا كبيرا منه كان لأولئك النساء المسلمات اللاتي أُخِذْن سبايا خلال موجة الحروب هذه، لا سيما اللاتي استقررن في بلاط ملوك المغول.

كان مغول القبيلة الذهبية هم أول من دخلوا في الإسلام، كان زعماؤهم "باتو" و"بركة خان" وهما ابني جوجي بن جنكيز خان، عُرف باتو بعطفه على المسلمين بينما أسلم بركة خان وبايع الخليفة العباسي المستنصر (إذ لم تكن بغداد قد سقطت حينئذ) وحاول جهده منع هولاكو من الزحف على أراضي المسلمين لكنه لم يفلح، ثم اشترك مع المماليك –وبالتحديد: الظاهر بيبرس- في محاربة هولاكو وجيوشه.

ما يهمنا في هذا السياق أن هذا كله كان من ثمار الأميرة رسالة بنت السلطان علاء الدين خوارزم شاه –سلطان الدولة الخوارزمية التي كانت أول دولة إسلامية أزاحها المغول- وأخت السلطان جلال الدين منكبرتي الذي كان آخر سلاطين الخوارزميين، ومن العجيب أن الأميرة التي لا يعرف لها كبير أثر وهي في المال والسلطان كان لها هذا الأثر وهي سبية أسيرة!!

وقد كان إسلام هذا الفرع المغولي من أهم أسباب انتشار الإسلام في مناطق روسيا والقوقاز لقرون، وكان التتار المسلمون من أقوى من واجهوا الدولة الروسية في مقتبل أمرها وهزموها أكثر من مرة وكانوا حلفاء الدولة العثمانية، فكانت لهم على تاريخ الإسلام أيادي بيضاء جليلة.

وأما في الفرع الفارسي فقد كان دخول الملك المغولي غازان خان –وهو سابع الملوك المغول في هذا الفرع- فتحا جديدا، وذلك بعد نصف قرن من سقوط بغداد أمام جيش هولاكو، وكان الفتح الأكبر منه هو في الملك الثامن أوليجاتو الذي خلف غازان خان على العرش، فلقد كان أوليجاتو نصرانيا لأن أمه كانت كذلك، ولكنه دخل في الإسلام بتأثير زوجته وكان في مقتبل الشباب، وكانت هذه بداية رسوخ الإسلام بين المغول في فارس.

وفي المملكة المغولية الأولى التي تسيطر على وسط آسيا كانت زوجة أخرى مسلمة -نعرف أن اسمها "أرغنة Organa"- تقوم بعمل فارق، إذ على يديها كان إسلام ابنها "مبارك شاه"، الذي تولى الملك على هذا الفرع، وبه انتشر الإسلام فيهم، ويكمن جلالة ما قامت به في أن زوجها قرة هولاكو الذي هو حفيد جغطائي بن جنكيز خان الذي كان ألد أعداء المسلمين من بين خانات المغول كافة، ولم يكن يطيق أن ينطق أحد بكلمة مسلم في حضرته، اللهم على سبيل التحقير.

ويا سبحان الله! فمن يصدق أن ما عجزت عنه السيوف والحروب تأتي به أحيانا نساء أسيرات!!

(3) في جبال الجزائر

مع تطاول الزمن كان سكان بعض المناطق الجبلية في الجزائر قد ابتعدوا عن الإسلام ونسوا حظا مما ذكروا به، وكانوا لوعورة أماكنهم منعزلين يفتقدون وجود الدعاة بينهم، ولم يكن فيهم مثل إبراهيم الجدالي ولا قدم عليهم مثل عبد الله بن ياسين اللذيْن أنقذ الله بهما قبائل صنهاجة المغربية عبر دعوة المرابطين التي صنعت للإسلام في المغرب والأندلس والصحراء الإفريقية ما يملأ المجلدات الكبار.

وبحسب ما يرويه المستشرق الفرنسي تروميللي في كتابه "أولياء الإسلام" فإنه لم ينتهض لهذه المهمة إلا قوما لا يكاد يتوقعهم أحد، أولئك هم المطرودين المهجرين من الأندلس عقب سقوطها، فتجاسروا عما تكاسل عنه كثير من دعاة هذه الأنحاء، ونجحوا فيما أخفق فيه غيرهم، فلقد وجههم شيخ من هذه الأنحاء إلى دعوة تلك القبائل، وجاء في حديثه لهم: "إنه لواجب قد  ألقى على عاتقنا أن نحمل مشعل الإسلام إلى تلك الأصقاع التي ضيعت ما ورثته من بركات هذا الدين، ذلك أن هذه القبائل البائسة لم تزود مطلقًا بالمدارس, وليس لديهم شيخ يعلم أبناءهم مبادئ الأخلاق وفضائل الإسلام, لهذا فهم يعيشون كالحيوان الأعجم لا يعرفون إلهًا ولا دينًا. ولكي تنزع عنهم هذه الشقاوات, عقدت النية على أن أناشد غيرتكم الدينية وهدايتكم. لا تَدَعوا بعد اليوم سكان هذه الجبال غارقين في حالة يرثي لها من الجهل بحقائق ديننا العظمى؛ انطلقوا وانفخوا في نيران دينهم الزائلة, وأعيدوا إنارة جذوتها الخامدة. طهروهم مما يظل عالقًا بهم من أثر من آثام اعتقادهم القديم في النصرانية. فطّنوهم إلى أن الله لا يقبل الرجس في دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, كما لا يقبله في النصرانية[2].إنني لا أخفي عنكم أن مهمتكم محفوفة بالصعاب, ولكن ما اتصفتم به من غيرة لا تقاوم وحماسة من أجل دينكم, سيمكنكم بعون الله من تذليل كل الصعاب. انطلقوا يا أبنائي وأعيدوا إلى الله ورسوله مرة أخرى هذا الشعب الشقي المنغمر في حمأة الجهالة والكفر. انطلقوا يا أبنائي واحملوا رسالة الخلاص أيدكم الله ووفقكم".

وبالفعل، خرجت مجموعات الدعاة إلى هذه الأنحاء، وأثاروا بزهدهم وتعبدهم شغف أهل الجبال، ولم يلبث أن نشروا فيهم الدين وذكروهم ما كان قد اندرس وأزالوا ما علق بأفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم من النصرانية، بل ونشروا بينهم العلوم والصناعات التي كانت مزدهرة في الأندلس فصارت تلك المناطق زاخرة بمراكز تعليمية مشرقة، فجذبت الشباب –في أول الأمر- ثم صار هؤلاء الشباب طليعة لأقوامهم ومن ورائهم القبائل التي تسكن صحراء الجزائر[3].

***

هذه الأخبار وغيرها مما يملأ زوايا التاريخ المنسية والمجهولة تقيم علينا الحجة في أمر الدعوة ونشر الدين، ونحن في حال الصحة والأمن والعافية.
 
ومع أن نشر هذه الأخبار يجدد في النفوس حسرات الذلة والقهر لما حل بالمسلمين ونسائهم، إلا أنه يجدد معها الفخر والإعجاب بدين يدعو إليه ويعمل من أجله من كان في ظلال النكبات والآلام والحسرات، حتى يفتح الله على يديه ما قد أغلق بهزيمة من لا يحفظ لهذا الدين ولهذه الأمة قدرها.

نشر في نون بوست


[1] رحلة ابن جبير ص299، 300. ط دار بيروت
[2] وهنا يعلق توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" بقوله: قارن هذا بالمواد التي نشرها المجلس الذي عقد في مدريد سنة 1566م, وهو يتعلق بتنصير المسلمين المقيمين في أسبانيا (أي بعد زوال الحكم العربي منها), ومنها مادة تقول: "لا يسمح مطقًا لهم ولا لنسائهم ولا لأي فرد آخر أن يغتسلوا أو يستحموا في منازلهم أو في أي مكان آخر, كما يجب أن تهدم وتخرب حماماتهم كلها".
[3] نقلا عن: توماس أرنولد: الدعوة إلى السلام ص151 وما بعدها.

هناك تعليق واحد: