الأربعاء، يوليو 02، 2014

أوثان الوطن!



تحدثنا في المقال السابق عن أن الأوثان الوطنية إنما صنعها الاحتلال الأجنبي ليجعلها بديلا عن الهوية الإسلامية الجامعة التي كان وجودها يهدد بقاءه ومصالحه، فحرص على صناعة هويات بديلة: فرعونية وآشورية وفينيقية .. إلخ، هويات "وطنية" تعمق من تقسيمه للأمة الواحدة، وتقدس الحدود التي صنعها بين بلاده، وصار على الإنسان "الوطني" أن يؤمن بشيئين متناقضين: أن عرقه أفضل الأعراق منذ أعماق التاريخ، وأن الحدود التي صنعها الاحتلال هي التعبير الصادق عن حدود العرق المختار، رغم أن أحدا لم يقف ليسأل نفسه: هل هذه الحدود التي رسموها على الورق كانت فعلا حدود أجدادنا "العظماء" أم لا؟! ولا توقف أحد ليسأل: هل تلتزم الأنظمة والحكومات بالحدود أم أنها تتعاون وتتحالف فيما بينها على الشعوب ولا تلقي بالا للحدود؟ حتى صار الحال في النهاية أن هذه الحدود هي على الحقيقة سجون للشعوب وحدها، وأن الإيمان بالعرق الفاضل يتناقض في أساسه مع الإيمان بالدين ومع الواجبات الإنسانية التي تحرم مثلا حصار شعب جائع بذريعة "الأمن القومي"!

واليوم نستكمل الحديث عن هذه الأوثان الوطنية، ولكن في الداخل لا في الخارج.

فمثلما كان الإيمان بالوطنية العرقية الضيقة يخالف مبدأ المساواة الإنسانية ويطرح شعورا عنصريا ويتسامح مع إجراءات عنصرية، فإن أوثان الوطن –في الداخل- تخالف مبدأ المساواة بين الناس وتصنع أصناما مقدسة من حقها أن تمارس كل الأفعال العنصرية في ظل خضوع أو حتى حفاوة الجميع.

1. الجيش مثلا، خط أحمر، لماذا؟ لأنه خير أجناد الأرض، لأنه يدافع عنك وأنت نائم في بيتك، لأنه يسهر على حماية حدود الوطن ... إلخ.

وتحت هذه العناوين يكتسب العسكر حق الحكم، والبقاء فيه، والتشبث به، وتزوير الانتخابات والاستفتاءات (فالمرحلة حرجة، وكما تعرفون فنحن منذ حكمنا العسكر دائما في مرحلة حرجة، والمراحل الحرجة تستلزم حكاما أقوياء)، ثم يدخلون في الاقتصاد، فينشئون الشركات والمصانع والمزارع والنوادي التي تعفى من الضرائب وتستفيد من الدعم ولا تدفع رواتب للأيدي العاملة (فالعساكر في خدمة الوطن، والوطن هو من يدفع، والوطن يدفع من جيوب أهالي العساكر.. فالعساكر وأهلهم والشعب كله في خدمة الوطن الذي هو في خدمة العسكر).. وهكذا حتى صار اقتصاد الجيش يقترب من نصف اقتصاد البلد، وأحيانا تتفجر ينابيع الوطنية في قلوب العسكر فيتبرعون للوطن (!!) بمليار جنيه!

ومن حق الجيش أن يقتل، وأن يسحل، وأن يعاين عذرية البنات، وأن تكون له سجون عسكرية يقطع فيها أبناء الوطن.. ومن حقه أن ينقلب على إرادة الشعب، ويعزل الرئيس المنتخب ويحبسه، ويغلق القنوات، ويضع رئيسا آخر، ويرفع رواتب أعضائه، وكل ما يشاء.. فالجيش هو ضمير الوطنية المصرية، وهو حارس الأمن القومي!

2. والقضاء خط أحمر، لماذا؟ لأن القضاء المصري عريق وشامخ ونزيه، قضاء –كما يقول المواطن البسيط- "عادل مائة في المائة، قضاء لا غبار عليه"!

ولهذا لا يجوز التشكيك في القاضي، ولو كانت مسيرته هي: الفشل في الثانوية، فيدخل كلية الحقوق التي يحصلها أصحاب أدنى الدرجات، ثم الفشل في الكلية، ثم واسطة وأموال تقذف بك إلى منصب وكيل النيابة، وحيث أنك تجيد سماع الكلام وتنفيذ الأوامر فالمسار الصاعد محفوظ لتكون بعد قليل نزيها شامخا تحاكم من جاء أمامك كيفما شئت، بقانون أو بغير قانون، ولسان الواحد منهم يقول: "أنا أحيي وأميت"!

ثم لا يجوز لأحد التعليق على أحكام القضاء، فمن أنت يا قزم لتعلق على كلام الشوامخ؟ ولا حتى كلام الزند إذ يطالب صراحة بالتدخل الأجنبي ويناشد أوباما ويهتف له "أين أنت؟ إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم".. فالشامخ ضمير الوطن، وأمثالك أيها القزم ليسوا مواطنين بنظر الشامخ.

3. والأزهر الشريف.. خط أحمر، لماذا؟ لأن الأزهر هو الإسلام والإسلام هو الأزهر، والأزهر هو الوسطية والوسطية هي الأزهر، والأزهر جامعة الألف عام، والأزهر كعبة طلبة العلم... إلخ.

مهلا ياقوم! ولكن الأزهر لم يعد كما كان! لم يعد حرا مستقلا متصرفا بأمواله وأوقافه، بل هو يتلقى رواتبه من مجلس الوزراء، وشيوخه موظفون في الدولة ترفع من تشاء وتطرد من تشاء، وشيخه الحالي كان عضوا بلجنة سياسات مبارك، ولم تعد للأزهر من عهد العسكر (الوثن الأول) حرمة! فهو يُقتحم ويؤخذ منه أبناؤه وبناته فيُلقون في السجون!

ثم حتى لو كان الأزهر شريفا ونزيها ومستقلا، فمن الذي حكم بأن الإسلام محصور في الأزهر وبأنه لا يحق لغير الأزهري التدريس والدعوة وارتقاء المنابر؟!

لا يجوز لك أن تتكلم أيها المتطرف، فمن أنت لتفهم الدين وتفهم الوسطية وتفهم الشرع الشريف؟! من أنت لتنتقد الأزهر الشريف العفيف؟!

هذه ثلاثة أوثان –كمثال- جرى تقديسها ليُمنع لمسها والاقتراب منها، وبسبب هذا التقديس فشلت ثورة يناير في الاقتراب منها، كانت تظنها مقدسة ووطنية وشامخة وشريفة فعلا!! فكانت النتيجة أن انقلبت هذه الأوثان على الثورة فقتلتها وسفكت دمها!

وذلك درس خالد: أن من قدَّس غير الله عُذِّب به! وأنه يهلك القوم إذا كانوا ممن إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، ولا والله لن تفلح الثورة حتى تعلن أنه لو فسدت مؤسسة فستحاسب ولا كرامة كائنة ما كانت، اقتداء بقول سيدنا وقدوتنا محمد وهو يقول: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!

نشر في الجزيرة مصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق