الخميس، مايو 08، 2014

الاحتضان الإسلامي لغير المسلمين (الموسرين)




بدأ حديثنا قبل أشهر عن "جاذبية الإسلام الاجتماعية"، تلك التي تمثل الباب الدائم للدخول في الإسلام سواء أكانت دولة الإسلام قوية عزيزة أو ضعيفة مقهورة، تلك الجاذبية التي تفتح بلادا لم تصلها جيوش الفاتحين، والتي تجذب حتى المحتلين لتدخلهم في دين المسلمين. ذلك أنه أمر يمارسه المسلمون بطبيعتهم وسجيتهم، ولهذا فالخطاب متوجه فيها لكل مسلم إذ العطاء فيه لا يتوقف على قرار رسمي أو حكومي إلا فيما ندر.



وقد تناولنا في المقالات الماضية شرائح من غير المسلمين الذين يحتكون بالمجتمع الإسلامي، فتحدثنا عن السائحين وعن الخدم وعن العمال، وحديثنا في هذه السطور عن الموسرين من السفراء والدبلوماسيين وأرباب الصنائع والأعمال والمهارات العلمية الذين يعملون في بلادنا في جوانب الصناعة والتعليم والمستثمرين، واخترنا لفظ "الموسرين" لأنه يشمل من استغنى عن الناس ومن فاض عنده المال.



والموسرون شريحة أصعب من سابقيها، فأولئك لهم حاجات تفتح لنا أبواب قلوبهم؛ فالسائح متشوق لمعرفة ما لدينا من جديد وغريب عليه، والخادم والعامل محتاج إلى ما يسد حاجته، بينما ذلك الموسر مطلوبٌ لا طالب، ولعله في كثير من الأحيان يكون متعاليا مترفعا قدم من بلاد أغنى وأفضل تقدما فهو ينظر إلينا وإلى بلادنا وثقافتنا من علٍّ.



إلا أنهم وإن كانوا أصعب فهم كذلك أقوى أثرا وأكثر فاعلية من غيرهم إن كتب الله لهم الهداية، فإنهم أبواب أقوام ذوي علم وغنى ونفوذ، ودوائر تأثيرهم من السعة والانتشار لا تقارن بغيرهم، ثم إنهم –بعد كل هذا- فيهم بعضٌ من نفسية السائح الذي يتعرف على بلاد وأفكار وأناسي غريبة، وبعض من روح العامل فيما يرجوه من مكسب وأموال، فيصح في حقه بعض ما قلناه في المقالات الماضية من وسائل وأفكار.



والمدخل إلى جميع الناس هو الأخلاق، فهي أمر مضطرد في حالات من أسلموا من جميع الشرائح والمستويات، وأمر الأخلاق لا مجال له إلا المعاملة ولا ينفع فيه التنظير، ومدخل الأخلاق واسع فسيح من أول البسمة العابرة إلى الإغاثة في الملمات والمصائب، وأهم ما فيه المعاملات المالية التي هي المحك الحقيقي لأخلاق الصدق والأمانة والعدل والإحسان والزهد والاستقامة، مما تنطبع النفوس بفطرتها على توقيره والتأثر به. والأخلاق كالكنانة كثيرة السهام، لا تدري أي السهام ستصيب فتفتح القلوب، حتى الذي أسلم قد لا يتذكر أي موقف ذلك الذي بدأ في فتح قلبه للإسلام، لكنه يتذكر ذلك الشعور الذي يبدأ صغيرا ثم يسيطر عليه للتعرف على الإسلام، وهو شعور تراكمي ناتج لا ريب عن مواقف صغيرة متتابعة وإن كانت متباعدة.



***



في رحلتنا لتتبع قصص من أسلموا من شريحة الموسرين لنحاول استكناه ما يميز هذه الشريحة واستكناه أفضل المداخل لها وجدنا ما يلي:



1.    الفراغ الروحي

     

وذلك أن الإنسان مهما تحققت له مطالب الجسد لم تغنه عن مطالب الروح، وهذا القلق الروحي يقوم مقام الجوع للجسد فلا بد له من إشباع، ومن هنا نجد كثيرا من هؤلاء يُسلمون لأقل سبب مثل سماع الأذان أو سماع القرآن حتى وهو لا يفهمه، وبعضهم يرى شيئا من حياة المسلمين فتمثل له لغزا محيرا حتى يجد السر في الإسلام، فيقبل عليه، وبعضهم يحقق كافة النجاحات التي طلبها في الدنيا ثم يجد نفسه ما زالت تطلب شيئا مجهولا.



ولنأخذ مثالا على هؤلاء السفير الألماني مراد هوفمان والذي اعتنق الإسلام لما رآه من شعب الجزائر –الذي كان آنئذ تحت الاحتلال والقتل اليومي- من إيمان ويقين والتزام، ولما رآه من مواقف أخلاقية نادرة مثل السائق الجزائري الذي عرض أن يتبرع بدمه لزوجته المريضة، وترى في قصته شوقا روحيا قاهرا لا يشبعه إلا القرآن الكريم وفيضان الفن الإسلامي، يقول: "بدأت أقرأ "كتابهم" القرآن في ترجمته الفرنسية، ولم أتوقف عن قراءته منذ ذلك الحين حتى الآن... إنني محاط في المنزل الآن بفن تجريدي، ومن ثَمَّ بفن إسلامي فقط. وأدركها أيضًا عندما يستمر تاريخ الفن الغربي عاجزًا عن مجرد تعريف الفن الإسلامي. ويبدو أن سره يكمن في حضور الإسلام في حميمية شديدة في كل مظاهر هذا الفن، كما في الخط، والأرابيسك، ونقوش السجاد، وعمارة المساجد والمنازل والمدن. إنني أفكر كثيرًا في أسرار إضاءة المساجد، وفي بناء القصور الإسلامية، الذي يُوحي بحركة متجهة إلى الداخل، بحدائقها الموحية بالجنة بظلالها الوارفة، وينابيعها ومجاريها المائية، وفي الهيكل الاجتماعي - الوظيفي الباهر للمدن الإسلامية القديمة".



وفي عام 2000م أسلم السفير الإيطالي لدى السعودية توركواتو كارديللي، وذكر أن إسلامه إنما هو تتويج لرحلة بحث استمرت عشر سنوات في التعرف على الإسلام وأهله وطبائعهم، وأعلن الرجل إسلامه عام 2001 الذي يعد وقت الذروة في الهجوم على الإسلام ووصمه بالإرهاب وإعلان الحرب العالمية عليه. فما كان أغناه عن الإسلام في هذا الوقت وهذا الظرف لولا أن أشواق الروح لا مسكن لها إلا ذلك الاطمئنان إلى ما وقر فيها.







2.    الأسئلة الكبرى

    

وهي من لوازم الفراغ الروحي إلا أنها تظهر فيمن حقق أحلامه ومن لم يحققها أو من يبحث عن حلم ومعنى وغاية، وتلك الأسئلة الكبرى تكثر لدى أصحاب الرأي والفكر والنظر، وأهل العلم والثقافة والأدب، فأولئك القوم أقدر على تحديد المشكلة وطرح الأسئلة وتكوين الأفكار.



وينتشر عند أهل كل فنٍّ نوعٌ من الأسئلة الملتصقة بفنونهم، فعامة أسئلة الأحبار والكهنة والقساوسة هي فيما يتعلق بصدق النبي محمد والمقارنة بين الإسلام والمسيحية والشبهات الشهيرة في هذا الموضوع، بينما يتعلق الفلاسفة والمفكرون بأسئلة الحياة والموت والمصير، أسئلة الخير والشر والعدالة والظلم والسعادة والتعاسة، ويكون الأدباء والفنانون والشعراء أكثر فردية ومباشرة إذ يدور بحثهم عن الإنسان والرغبات والشهوات والسعادة والتعاسة ونحو هذا.



فإذا تيسر لهم من أجاد (أولا) استيعابهم إنسانيا ثم (ثانيا) محاورتهم علميا وبأدب فالمظنون أنه يفلح معهم إن شاء الله، لا سيما إن قدَّم لهم منظورا مختلفا للحياة، أو لامس جوابه حيرة قائمة ملتهبة لم تحصل على جواب شافٍ بعد.



وعامة ما يحدث حينئذ لا يكون الدخول في الإسلام مباشرة، بل أولئك قوم يستكملون طريق البحث والمعرفة بأنفسهم، فيتأملون ويختبرون ما قيل لهم، ثم تأتي لحظة دخولهم في الإسلام كثمرة نهائية، لكنها تكون في ذات الوقت انطلاقة أخرى، وثمرة تأتي بعدها بثمرات خالدات، وغالبا ما يتحول هؤلاء إلى دعاة متميزين للإسلام ويكون إنتاجهم الفكري فتحا في بابه.



ولنأخذ مثالا على هذا الداعية العالمي الشهير يوسف استس، والذي أسلم على يد رجل مسلم اجتذبه بالأخلاق الطيبة ثم بالإجابات البسيطة عن الإسلام والمسيحية فصار من الدعاة العالميين، ولقد وصف يوسف استس أخلاق الرجل الذي اهتدى على يديه بقوله: "مثل هذا الرجل ينقصه جناحان ويصبح كالملائكة يطير بهما"، وبعد مناقشات امتدت لشهور كانت هذه الليلة التي يصفها بقوله: "مشينا وتكلمنا طوال تلك الليلة، وحان وقت صلاة الفجر.. عندها أيقنت أن الحقيقة قد جاءت أخيراً، وأصبحت الفرصة مهيئة أمامي... أذن الفجر، ثم استلقيت على لوح خشبي ووضعت رأسي على الأرض، وسألت إلهي إن كان هناك أن يرشدني... وبعد فترة رفعت رأسي إلى أعلى فلم ألحظ شيئاً، ولم أر طيوراً أو ملائكة تنزل من السماء، ولم أسمع أصواتاً أو موسيقى، ولم أر أضواء... أدركت أن الأمر الآن أصبح مواتياً والتوقيت مناسباً، لكي أتوقف عن خداع نفسي، وأنه ينبغي أن أصبح مستقيماً مسلماً... عرفت الآن ما يجب علي فعله".



***



ومن هنا ندرك أنه ينبغي أن يكون لهذه الشرائح من يتوجه لها من الدعاة والعلماء، خصوصا وبعض منها مهمته هو التواصل والتعرف –كالسفراء والدبلوماسيين والإعلاميين والأدباء والشعراء والرسامين- وأن تكون هذه الفرقة من الدعاة متسلحة بحد مقبول من العلوم والمعارف التي تمثل قاعدة مشتركة لإنشاء اتصال مع هذه الشرائح.



ولربما بدا الأمر صعبا مع الأوروبيين والأمريكان لما بينهم وبين المسلمين من عداوة، لا سيما وسفاراتهم ووسائلهم الإعلامية إما ركن أصيل في الصراع السياسي أو على الأقل ليست بريئة منه، على أن الأمر يستحق المحاولة في كل حين ومع كل أحد، ولكن يبقى السؤال عن إسهامنا في التواصل مع سفراء وجاليات الدول الإفريقية والآسيوية ودول أمريكا الجنوبية، فأولئك أقرب منالا وأوطأ منزلا.



ومن الوسائل التي ينبغي طرقها هو فتح الأبواب لما يسمى بـ "الدبلوماسية الشعبية" التي تفتح الباب أمام الدعاة والمراكز الإسلامية والمتطوعين للتواصل مع ممثلي هذه الدول وجالياتها وإمكانية الاستفادة منهم في تمتين أواصر العلاقة بين بلادنا وبلادهم ونشر الدعوة فيها.



وإن اعتبار هؤلاء من المؤلفة قلوبهم سيجعل لهم نصيبا في مصارف الزكاة، ولقد كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يعطي المؤلفة قلوبهم العطاء الكبير، حتى ليأخذ الواحد منهم ما بين جبلين من الغنم فيذهب إلى قومه قائلا "أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر"، وكم دخل الإسلامَ أقوامٌ لما فيه من حظ الدنيا ثم صار الإسلام أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم والناس أجمعين. فمن كان يملك العطاء فلا يبخل به.



ومن الوسائل الجديدة ما ابتكرته بعض المراكز الإسلامية من جمع بعض هذه الجاليات ليعيشوا يوما في حياة المسلمين، فيدخلون المسجد ويمارسون الصلاة وربما الصيام وترتدي النساء الحجاب، ومنها كذلك فكرة الاحتضان العائلي بالإقامة لدى عائلة مسلمة ما تيسر لها من أيام أو أسابيع،



لكن ينبغي التنبه إلى أمر هام، وهو أن هذا العطاء بالمال وهذا الاحتضان الاجتماعي إنما يجب فيه أن يكون من موضع القوة والعزة والوعي والانتباه، وألا يشوبه من الأمور ما قد يُفسَّر على أنه بلاهة وسذاجة وإعجاب وتودد نابع من موقع المنهزم نفسيا أمام خصمه الحضاري. فكم حملت إلينا مذكرات المستشرقين والرحالة والجواسيس من هذه الأنباء حسرات، فما إن يظن أولئك القوم أنهم في موضع الرغبة والرهبة والتفوق الحضاري والعلو النفسي حتى تنقلب الأمور، وإن قصص لورنس العرب وأضرابه أشهر من أن تُحْكى.



إن هذا المعنى خفي في قصص من أسلموا لكنه مضطرد فيها، معنى الاعتزاز بالإسلام والزهد فيما عندهم، ومن المواقف العجيبة التي يمكن إيرادها هنا قصة القس المصري إسحاق هلال مسيحة والذي كان يركب إحدى المواصلات العامة في القاهرة، فصعد إليها طفل صغير يبيع كتيِّبات دينية، فأعطى جميع الركاب ولم يعطه منها، يقول: "قلت له: "يا بنيّ لماذا أعطيت الجميع بالحافلة إلا أنا". فقال: "لا يا أبونا أنت قسيس". وهنا شعرت وكأنّني لست أهلاً لحمل هذه الكتيّبات مع صغر حجمها (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُون) . ألححت عليه ليبيعني منهم فقال: "لا دي كتب إسلاميّة" ونزل، وبنزول هذا الصّبي من الحافلة شعرت وكأنّني جوعان وفي هذه الكتب شبعي وكأنّني عطشان وفيها شربي. نزلت خلفه فجرى خائفاً منّي فنسيت من أنا وجريت وراءه حتّى حصلت على كتابين. عندما وصلت إلى الكنيسة الكبرى بالعبّاسيّة (الكاتدرائيّة المرقسيّة) ودخلت إلى غرفة النّوم المخصّصة بالمدعوّين رسميّاً كنت مرهقاً من السفر، ولكن عندما أخرجت أحد الكتابين وهو (جزء عم) وفتحته وقع بصري على سورة الإخلاص فأيقظت عقلي وهزت كياني. بدأت أرددها حتى حفظتها وكنت أجد في قراءتها راحة نفسية واطمئناناً قلبياً وسعادة روحية".



لقد كان ذهن هذا القس يمور بالأسئلة والشكوك قبل هذا الموقف، لكن الشاهد منه أن الفتى الصغير كانت لديه هذه العزة الفطرية والتي جعلته ينزه بيع تلك الكتب لقسٍّ مهما بذل له فيها من المال، ومقام الدعوة لا ينفصل عن مقام الاعتزاز، كما أن مقام الكرم والعطاء لا يتنافى مع مقام الوعي واليقظة.





 نشر في مجلة البشرى: رجب 1435هـ = مايو 2014م


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق