الجمعة، فبراير 07، 2014

الاحتضان الإسلامي لغير المسلمين (الخدم)




اقرأ أولا: 
 

تحدثنا في المقال الأول من هذه السلسلة عن "جاذبية الإسلام الاجتماعية" لنثبت أن الحياة الاجتماعية للمسلمين ظلت الباب المفتوح للدخول في الإسلام، سواء أكانت الأمة عزيزة مكنة أو ضعيفة محتلة، وسواء أكان الداخلون في الإسلام من البلاد المفتوحة أو من البلاد التي لم تصل إليها جيوش الفاتحين، وسواء أكان الذي يسلم حرا أو عبدا أو أسيرا.

وبدأنا في المثال الثاني الحديث عن "الاحتضان الاجتماعي لغير المسلمين"، وقسمنا غير المسلمين –في بلاد المسلمين- إلى زائرين ومُقِيمين؛ وتحدثنا في المقال الماضي عن الزائرين لمدد قصيرة كالسائحين وكيف ينبغي أن نكون لهم، ونبدأ في هذا المقال والذي يليه في الحديث عن المقيمين في بلادنا، ونختار في هذه المرة الحديث عن شريحة الخَدَم.

ونحن نخصص الحديث عن الجانب الاجتماعي لأنه المساحة التي تقوم بها الأمة –أفرادا ومجموعات وهيئات- بغض النظر عن السلطة السياسية قوة وضعفا، سواءًا أكانت داعمة أو لا مبالية.

***

لعل شريحة الخدم هي أسهل الشرائح في إدخالها إلى الإسلام، إذ هو في مكانة الضعف والفقر والحاجة كالأرض الخصبة تؤثر فيه أدنى معاملة حسنة وأقل خلق كريم كما تنبت الأرض بأقل قطرات مطر، وتلك من المواضع القليلة التي يكون فيها المسلم –في هذا الزمان- في موضع الأعلى ويكون غيره في الموضع الأدنى من حيث القوة والمال والاحتياج.

وفقه التعامل مع الخدم مما ينبغي أن ينتشر في أوساط من أنعم الله عليهم بالغنى والثراء، خصوصا في منطقة الخليج التي تمثل شريحة الخدم ظاهرة واضحة ويمثل الخدم عنصرا أساسيا في تلك البلاد.

وقبل كل شيء، فإن أخلاق المسلم في معاملاته هي الداعية الدائم الذي يجذب القلوب والعقول، وليس من موطن تظهر فيه الأخلاق بحق سوى موطن كهذا، لا يكون الإنسان مضطرا فيه لحسن المعاملة فلا خوف من عاقبة ولا رجاء لمطمع، بل لا يلزمه بهذا إلا الدين.

وقد ألزم الإسلام أهله بأخلاق في معاملة الخدم، تبدأ من استشعار المسؤولية، إذ صاحب البيت مسؤول عن الخادم كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، واستعمال النبي لفظ "الرعاية" يوحي بالمعاني الإنسانية الراقية والرقيقة للتعاملات داخل نطاق هذه المسؤولية.

***

إذا نظرنا في النصوص التي تتحدث عن معاملة الخدم فسنجد أنها تعاملهم كأنهم من الأهل أو على الأقل كأنهم من الأصدقاء المقربين، الذين هم أولى الناس بالإكرام والرعاية والعفو والرحمة.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس..."[1]، ومثل هذا حديث آخر يقول: "ما أطعمتَ نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة"[2]، وحين سُئل النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصدقة عن الأولويات، قيل: يا رسول، عندي دينار، قال: "أنفقه على نفسك"، قال: عندي آخر، قال: "أنفقه على زوجتك"، قال: عندي آخر، فقال: "أنفقه على خادمك، ثم أنت أبصر[3]. فتأمل كيف كان الخادم في درجة بعد النفس والأهل.

ومن المعاني الرقيقة في معاملة الخدم ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم: أن يدعو المرء خادمه ليشاركه الأكل، وهذا مقام فضل واستحباب، يقول: "إذا جاء أحدَكَم خادُمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكله أو أكلتين، فإنه وَلِيَ عِلاجه"[4]، ومعنى ولي علاجه أي أعَدَّه فلربما اشتهاه وأحب أن يأكل منه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأكل مع الخادم علاج للكبر ودليل على التواضع، فقال: "ما استكبر من أكل معه خادمه"[5].

وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالرفق بالخادم، ففي الحديث الذي مرَّ معنا "فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يُكَلِّفُه من العمل ما يغلبه، فإن كَلَّفَه ما يغلبه فلْيُعِنْه عليه"، وفي رواية أخرى "ولا يُكَلَّف من العمل إلا ما يطيق"[6]، ويُروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما خَفَّفْتَ عن خادمك من عمله كان لك أجرًا في موازينك"[7].

وإذا أخطأ الخادم فليكن سلوك المسلم هو العفو، ولقد أجاب النبي إجابة عجيبة حين سأله رجل يبدو من كلامه الضجر والغضب من خادمه: "يا رسول الله كم نعفو عن الخادم؟"، فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، فلما كان في الثالثة قال: "اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة"[8]، والمقصود ليس العدد ولكن كثرة العفو وأن يكون هو الأصل في التعامل مع الخدم.

ولقد ضرب لنا النبي مثالا بنفسه في تعامله مع خدمه، فقد كان يهتم بحالهم وأمورهم، فمن ذلك أنه:

1. كان يدعو لخادمه أنس بن مالك –الذي خدمه عشر سنين- مثلما قال أنس: "فما ترك خير آخرة ولا دنيا إلا دعا لي به، قال: "اللهم ارزقه مالا، وولدا، وبارك له"[9].

2. وهو الذي سعى في زواج خادمه ربيعة بن كعب الأسلمي، رغم فقره وحاجته، وألحَّ عليه فيه، يروى ربيعة: كنتُ أخدم النبي فقال لي النبي: يا ربيعة، ألا تتزوج؟ قال: فقلتُ: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوَّج؛ ما عندي ما يُقيم المرأة، وما أحبُّ أن يشغلني عنك شيء. قال: فأعرض عني، ثم قال لي بعد ذلك: ياربيعة، ألا تتزوج؟ قال: فقلتُ: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوَّج، وما عندي ما يُقيم المرأة، وما أحبُّ أن يشغلني عنك شيء. فأعرض عنِّي. وقال: ثم راجعتُ نفسي، فقلتُ: والله يا رسول الله أنت أعلم بما يُصلحني في الدنيا والآخرة. قال: وأنا أقول في نفسي: لئن قال لي الثالثة لأقولن: نعم. قال: فقال لي الثالثة: يا ربيعة، ألا تتزوج؟ قال: فقلتُ: بلى يا رسول الله، مُرْنِي بما شئتَ، أو بما أحببت. قال: "انطلق إلى آل فلان". إِلى حيٍّ من الأنصار... [10].

3. وحرص النبي على عيادة خادمه الغلام اليهودي في مرضه، وحرص على إسلامه، قال أنس بن مالك: "كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار"[11].

وبالعموم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خير رجل لخادمه من الرفق به والعفو عن أخطائه وعدم التضييق عليه حتى لفظة "أف" لم يكن يقولها؛ قال أنس رضي الله عنه قال: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أُفٍ قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا وهلّا فعلت كذا؟[12].

***

وقد نهى الإسلام عن ظلم الخادم أو هضمه حقه أو الاعتداء عليه، ومن ينظر في نصوص النهي عن هذا يشعر لأول وهلة بالمفاجأة من شدة العبارات والألفاظ.

فلا يجوز ظلم الخادم في أجره، فهذا من أسباب خصومة الله يوم القيامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره"[13]، وكأنما في الحديث ردٌّ على هذه النفس التي قد يغويها ويغريها ظلم الخادم أن لا سند له ولا ظهر ولا قوم يُخشى منهم، فكان الله تبارك وتعالى هو صاحب الخصومة للخادم.

ونهى الإسلام عن ضرب الخادم، خصوصا على وجهه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعتق جارية لطمها سيدها، فتعلم أصحابه القصاص للخدم من أنفسهم وأبنائهم وصار ضرب الخادم مما يخشى منه المرء فيهرب، من بعد ما كان الخادم ملكا لسيده كما هو الحال في الجاهلية الأولى وفي جاهليتنا المعاصرة[14]، يروي معاوية بن سويد بن مقرن المزني: "لَطَمْتُ مولى لنا فهربتُ، ثم جئت قبيل الظهر فصليت خلف أبي فدعاه ودعاني، ثم قال: امتثل منه (يعني: اقتص منه)، فعفا (الخادم)، ثم قال: كنا بني مُقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أعتقوها"، قالوا: ليس لهم خادم غيرها، قال: "فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها"[15].

ومثل ذلك ما جرى لأبي مسعود البدري الذي قال: "كنت أضرب غلاما لي. فسَمِعْتُ من خلفي صوتا: "اعلم، أبا مسعود.. لله أقدر عليك منك عليه"، فالتَفَتُّ فإذا هو رسول الله ، فقلت: "يا رسول الله، هو حر لوجه الله"، فقال: "أما لو لم تفعل، لَلَفَحَتْك النار، أو لَمَسَّتْك النار"[16].

وكان نبينا قدوة في هذا، تقول عائشة رضي الله عنها قالت: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل"[17].

بل ولقد نهى النبي عن الدعاء على الخادم، وجعله بعد النفس والأهل، قال صلى الله عليه وسلم "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله تبارك وتعالى ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم"[18].

***

وبالجملة فإن الخدم ممن ينبغي أن يُعامَلوا بالرحمة، لما هم فيه من الحاجة والفقر والغربة أحيانا، وفي الحديث "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء"[19]، ولقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم أولئك الجفاة ذوي الغلظة فقال: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس"[20].

ولقد سمعت من أصحاب الدين ممن أنعم الله عليهم كثيرا من التفنن في معاملة الخدم، كاستقبالهم من المطار، وإشعارهم بالألفة وتخفيف الغربة عنهم والرفق في تعليمهم عادات البلد واستعمال أجهزة الطبخ والتنظيف والغسيل مما لا يعرفون استعماله، والإغداق عليهم في الأعياد، ومساعدتهم في أعمال الخدمة، والتخفيف عنهم، والتلطف بهم حال ضيقهم وغضبهم ومرضهم، والإحسان إليهم وإلى ذويهم سواء أكانوا في ذات البلد أو في غيرها، وتمكينهم من زيارة ذويهم والاتصال معهم، وسمعت في هذا قصصا عجيبا والعديد منها انتهى بإسلام هؤلاء الخدم حتى من كان يفعل هذا غافلا عن نية الدعوة إلى الله وإدخالهم في الدين.

ولو تذكر المرء نعمة الله عليه إذ جعله صاحب غنى ومال وقد كان يمكن أن يكون مكان هذا الخادم، بل لو تذكر أن أحدا لا يضمن تحول نعمة الله عنه وأن يصير فعلا في مستقبل الأيام مثله.. لو تذكر هذا لشكر نعمة الله عليه وعامل ذلك الخادم بما يحب أن يُعامل به، وكم في التاريخ من ملوك تحولوا إلى فقراء متسولين يتكففون الناس ولم يجد أولادهم –بعد العز والملك- نعلا يلبسونه فصاروا حفاة، ولا طعاما سوى كسرات خبز يابسة!!

فالبرُّ بهؤلاء إنما هو شكر لنعمة الله واتقاء لتحولات الأيام التي لا تدوم على حال.

 نشر في مجلة البشرى، فبراير 2014


[1] البخاري (5703).
[2] البخاري في الأدب المفرد (82)، أحمد (17218)، والنسائي (9185)، وحسنه شعيب الأرناؤوط وصححه الألباني.
[3] البخاري في الأدب المفرد (197)، وحسنه الألباني.
[4] البخاري (2418).
[5] البخاري في الأدب المفرد (550)، وحسنه الألباني.
[6] البخاري (5703)، مسلم (1662).
[7] ابن حبان (4314)، وأبو يعلى (1472)، وقال حسين سليم أسد: رجاله ثقات.
[8] أبو داود (5164)، وصححه الألباني.
[9] البخاري (1881).
[10] أحمد (16627)، والحاكم (2718) وقال: على شرط مسلم.
[11] البخاري (1290).
[12] البخاري (2616)، مسلم (2309).
[13] البخاري (2114).
[14] تحمل لنا الصحف والأخبار أنباء في غاية الغرابة والدهشة عن معاملة أقوام لخدمهم، بالضرب والتعذيب والكي، ومما هو مشهور أن بعضهم تسبب في عاهات دائمة كالعمى والصمم مما ينزله بخادمه، وبعضهم اكتشف أنه حبس خادمه في بيته أو مزرعته لسنين وصلت إلى ثماني أو عشر سنين، ولعل ما خفي يكون أعظم.. وهذا غير الاستعباد الذي يجري على العمال والفقراء الذين تستغل حاجتهم وفقرهم في إذلالهم وامتصاص مجهوداتهم وربما دمائهم في الأعمال الشاقة ولوقت طويل بلا رحمة ولا شفقة.
[15] مسلم (1658).
[16] مسلم (1659).
[17] مسلم (2328).
[18] أبو داود (1532)، وصححه الألباني.
[19] أحمد (6494) أبو داود (4941)، الترمذي (1924)، وصححه الألباني.
[20] البخاري (6941)، مسلم (2319).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق