السبت، نوفمبر 09، 2013

التعليم المحظور في بلادنا


تقول القاعدة التاريخية البسيطة بأن كل تقدم علمي لا ينعكس بالأثر على التقدم العسكري فليس مؤثرا في مسار التاريخ -التاريخ السياسي على الأقل- فكم استطاعت أمم متخلفة أن تقهر أمما أرقى منها علما وحضارة وثقافة لأنها كانت أضعف منها في المجال العسكري.

هكذا اجتاح المغول –وهم بدو أجلاف- عواصم الحضارة الإسلامية الزاهرة منذ بلاد ما وراء النهر مرورا ببلاد طبرستان وفارس والعراق حتى أوقفهم رجل كان قد استطاع إعداد العدة في أرض الشام. وقبلهم اجتاح النورمان –وهم بدو أوروبا الأجلاف- دولة الإسلام في صقلية واحتلوا أجزاء من الساحل الشمالي الإفريقي أيضا، وبين الحادثتين تقع النكبة الأشهر في تاريخ المسلمين: نكبة سقوط الأندلس على يد قوم لم يكن لهم ولا عشر معشار ما لدى المسلمين من تفوق علمي.

ولا تزال القاعدة سارية، يفهمها أعداؤنا ويغفل عنها كثير منا، فإسرائيل حريصة على أن تكون "قوتها العسكرية" أكبر من مجموع القوة العسكرية العربية مضافا إليها تركيا وإيران، ويمثل هذا أحد الخطوط الحمر الكبرى في سياستها. وقبل أيام من كتابة هذه السطور –وبالتحديد 19/9/2013م- كانت آن باترسون (السفيرة الأمريكية في باكستان ثم مصر) في جلسة استماع بالكونجرس، فكان من ضمن ما قالت: لقد نتجت عواقب استراتيجية كارثية حين أوقفنا الدعم عن الجيش الباكستاني 12 عاما؛ إذ يوجد الآن جيل من العسكريين لا اتصال لهم بالجيش الأمريكي لأنهم لم يدرسوا هنا ولم يتعرضوا لقِيَمنا، ولهذا فيجب أن نحافظ على علاقتنا بالجيش المصري.

هذه الكلمات تدلل على أشياء كثيرة، منها –في سياقنا هذا- أن القوم يريدون إبقاءنا "تحت المراقبة الكاملة"، كي لا نفلت من أيديهم، وإذا أفلتنا لأي سبب سياسي أو وضع متغير فينبغي أن نكون قد تعرضنا لقِيَمهم وأخلاقهم كي نواصل المسير على دربهم وإن فارقناهم في بعض التفاصيل.

ماذا يعني هذا؟

يعني أننا نواجه مشكلتين في لحظة واحدة؛ الأولى: مشكلة التخلف العلمي، والثانية: ضرورة انعتاقنا من الأسر الحضاري لأعدائنا.

غير أن المهم، وهذا هو هدف المقال، أن كلا المشكلتين لا يمكن حلهما بالتدرج أو التتابع، بل لابد من مواجهتهما معا، وإلا ذهبت كل المجهودات أدراج الرياح.

***

المشكلة الحضارية: فلسفة العلوم

تأسست الحضارة الغربية على الفكرة المادية، واستبعدت وجود إله، فمن لم يستبعد وجود الإله جعله كإله أرسطو "كصانع الساعة، أودع فيها قوانين الحركة ثم تركها فلا يدبر أمرها"، ومن هذه الفكرة المادية نشأت "فلسفة العلوم الغربية".

مثلا: يتأسس "علم الاقتصاد" على قواعد منها أن "الموارد تنضب"، وأن "البشر أكثر مما تحتمله الموارد"، ومن ثم يكون مفهوما أن يقول مالثوس –وهو مؤرخ واقتصادي وقسّ وصاحب نظرية التكاثر السكاني- بأن الحروب والنزاعات إنما هي حلول تعيد الطبيعة بها تنظيم نفسها ومواردها، وأن الجوع والمرض والموت إنما هي "موانع إيجابية" في مقابل "الموانع السلبية" كتأخير الزواج والشذوذ، وهكذا أعطى مبررا قويا للحروب وعمليات الإبادة، فهي –بهذا- "قدر محتوم" و"قانون تنظم الطبيعة به نفسها"، واقترح مالثوس أن أجرة العامل ينبغي ألا تتجاوز الحد اللازم لعيش الكفاف حتى لا يتكاثر كما يحلو له، واقترح أنه لا داعي لزيادة الإنفاق على العاطلين كيلا يؤدي هذا إلى الكسل وتضاعف عدد الأسرة فتتضاعف الأفواه، وطالب بوقف إعانات الفقراء ووضع العوائق أمام الزواج المبكر لخفض نسبة المواليد. وكانت مثل هذه الاقتراحات مبررات ذهبية للبرلمان البريطاني –حينئذ- ليبرر تخفيض إعانات الفقراء وإعانات البطالة وإعانات المرضى والمحتاجين، ولأصحاب المصانع للحفاظ على حد أدنى للأجور، لقد تلقوا آراء مالثوس -كما يقول ول ديورانت- "كوحي إلهي مقدس"[1].

بينما الأساس الإسلامي لعلم الاقتصاد قائم على أن الله هو الرزاق، وأن كل دابة في الأرض إنما على الله رزقها، وأنه ما يظهر من فساد في الموارد فإنه بما صنعت أيدي البشر، وأن السموات والأرض مكنوزة بالثروات (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، ولا يتصور المسلم أن الله العليم الخبير الحكيم يخلق خلقا ولا يجعل لهم رزقا.

وقس مثل هذا على سائر علوم الاجتماع والإنسانيات، بل على سائر العلوم –بما فيها العلوم البحتة- إذ أن العقول التي تعمل في حقل العلم تؤثر على اتجاهه وتطبيقاته، فثمة عقل لا يرى في الطبيعة إلا "ملكية خاصة" تمثل "مخزنا لثرواتنا ومستودعا لنفاياتنا"[2]، وثمة عقل يؤمن بأنه "مُستَخلف فيها" بحيث لا يعمل فيها إلا بأمر الله (واستعمركم فيها) وبنهيه (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).

***

المشكلة الثانية: ردم الفجوة العلمية بفاعلية

ونقول "بفاعلية" لأن العلم قد ينصرف إلى ما ليس يفيد الأمة، وها هي ألمانيا واليابان يحققان أقصى التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي لكنهما بلا أي ثقل في الميزان السياسي، لأنهما بلا جيش، وكما ذكرنا قبل سطور: فكل تقدم علمي لا ينعكس على التقدم العسكري فليس بمؤثر وليس يحمي الأمة من الاجتياح والسقوط، وذكرنا أشهر الأمثلة.

وعلى غير ما قد يظن الناس أن ردم الفجوة العلمية هذا يحتاج وقتا من الهدوء والاستقرار، يخبرنا التاريخ بأن هذا الردم لم تقم به الأمة إلا في لحظات المقاومة والمواجهة، أو بعبارة الراحل الكبير جلال كشك "تجربة التاريخ كله لا تثبت حالة واحدة استحال فيها على شعب متخلف اكتساب التكنولوجيا والتفوق فيها.. شرط أن يختار القتال"[3].

لقد اندهش الفرنسيون من مقاومة الأهالي المصريين، الذين استطاعوا إنشاء معمل للبارود، واستطاعوا إعادة تصنيع واستعمال ما بقي من المدافع التالفة، واستعلموا الأدوات البدائية من حجر وأخشاب ومثاقيل الموازين وما ضُرِب عليهم من قنابل الفرنسيين ليعيدوا صناعتها كقنابل تُطْلَق من المدافع، وكان أبطال المشهد هم أصحاب الحرف من السباكين والنجارين والحدادين والعربجية، حتى ليقول ضابط فرنسي "لقينا مقاومة لا قبل لنا بشراستها وتنظيمها من قبل"، ويشهد أحد مهندسي الحملة بأن ما فعله سكان القاهرة "لم يستطع أحد أن يقوم به من قبل، فقد صنعوا البارود وصنعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الصُنّاع، وفعلوا ما يصعب تصديقه –ومن رأى ليس كمن سمع- ذلك أنهم صنعوا المدافع"، بل يشهد كليبر-قائد الحملة الفرنسية آنذاك- بأنه لم يكن يتصور الوضع على هذه الدرجة من الخطورة[4].

أما التوهم بأن نقل العلم قد يتم –بين الأعداء- بالرضا في لحظات الهدوء والصفاء فذلك يدل على سذاجة وجهل، فذلك مينو –القائد الثالث للحملة الفرنسية- حين فكر في إقامة مصنع للجوخ في مصر لسد حاجة الجيش إليه في ظل الحصار البحري المفروض عليهم جاءته التقارير توصيه بألا يعمل في المصنع مصري، ذلك "أن مقدرة المصريين في تقليد المبتكرات الصناعية من شأنها أن تضر بالمصانع الفرنسية"، وقد كان!

وهذا الأمر مضطرد عبر التاريخ، قديما وحديثا، وانظر إلى الحركات التي هادنت المستعمر هل استطاعت أن تكسب من علمه شيئا، بينما انظر إلى الحركات التي قاومته إلى أين وصلت وكيف أوجعته؟

لقد ظلت إسرائيل نحو عشر سنوات تحاول مقاومة صواريخ فصائل المقاومة وهي حتى الآن لم تنجح نجاحا كاملا، برغم الفارق الرهيب بين الطرفين في كل شيء، بينما لم ينجح من هادنوها في أي شيء، وحين وقف وزير الحرب الإسرائيلي يبرر عجزه قائلا "إن أجهزة رصد الصواريخ التي لدينا عاجزة عن التقاط هذا النوع لأنه أقل تطورا من أن ترصده" فردّ عليه أحد أعضاء الكنيست بعبارة ساخرة ولكنها حقيقة جدا "إذن فلنصدر لهم صواريخ متطورة لكي نستطيع صدّها"!!

***

ما لم يدرك نظام التعليم هاتين المشكلتين: كيف ننظر إلى العلم، وكيف نطبقه بفاعلية.. فإنه سيظل دائرا في الفراغ، أو بالأحرى: دائرا تحت رقابة الأعداء.

 
نشر في مجلة الوعي الإسلامي، المحرم 1435 هـ


[1]  ول ديورانت: قصة الحضارة 42/ 251 - 253، 42/ 381 - 389، رشيد الحمد ومحمد سعيد صباريني: البيئة ومشكلاتها ص112، جان ماري بيلت: عودة الوفاق بين الإنسان والطبيعة ص27.
[2] جارودي: وعود الإسلام ص20.
[3] جلال كشك: ودخلت الخيل الأزهر ص305.
[4] الجبرتي: عجائب الآثار 2/326 وما بعدها، جوزيف ماري مواريه: مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية على مصر ص155 وما بعدها، الرافعي: تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم 2/173.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق