الخميس، فبراير 24، 2011

ثقافة مطمئنة

كان السويسري هانس كونج قسيسا مرموقا، وأستاذا للاهوت، وقد وصل في المراتب إلى أن عينه البابا السابق للفاتيكان يوحنا بولس مستشارا خبيرا لأعضاء مجلس الفاتيكان، وهو قرينٌ للبابا الحالي بندكت السادس عشر، إلا أنه نشر عام 1971 كتابه "معصوما من الخطأ" والذي تبنى فيه القول بعدم معصومية البابوية، فأزيح من مناصبه وحرم من التدريس كعالم لاهوت، ثم إنه ابتكر مشروعا وتبناه وعمل عليه بدأب شديد، ذلك هو مشروع "الأخلاق العالمية" الذي يدعو جميع البشر إلى التوحد على الأخلاق الأساسية التي وُجِدت في كل الأديان والثقافات الكبرى. يؤمن هانس كونج بأن البشر جميعا متفقون في أصول هذه الأخلاق، ومن ثم فإنه يمكنهم بالتمسك بها أن يصنعوا حياة أفضل يظللها تعايش إنساني واقفٌ على هذه الأرضية المشتركة.

لقد لفت نظري عبارة قالها في محاضرته التي ألقاها في افتتاح ملتقى أديان العالم بجامعة سانتا كلارا في (31/3/2005)، ففيها كان يؤكد على أن الأديان ليست عقبة في سبيل التعايش الإنساني، بل إن لديها القدرة الدائمة على تطوير نفسها وتقديم نماذج جديدة استجابة للمستجدات الحديثة، واستدل على هذا بأن هذه الأديان تعرضت من قبل لحركات إصلاحية؛ فلقد "مرَّ عصر الإصلاح المسيحي بمرحلة أخرى من تغير النموذج، تلك المعروفة بالتنوير. أما اليهودية بعد الثورة الفرنسية ونابليون فقد مرت بتجربة حقبة التنوير أولا، وكنتيجة، مرت أيضا على الأقل بمرحلة الإصلاح اليهودي، بتجربة الإصلاح الديني". لكنه عند الإسلام قال: "أما الإسلام، على الرغم من ذلك، فلم يشهد أي إصلاح ديني، ولهذا فإنه حتى يومنا هذا يواجه بعض المشكلات الخاصة أيضا فيما يتعلق بتعامله مع الحداثة وعناصرها الجوهرية، حرية الوعي، والدين، حقوق الإنسان، التسامح والديمقراطية"(1).

ولست ممن يسيء الظن بالرجل، فإن عامة كلامه من قبل ومن بعد عن الإسلام جيد بل جميل جدا، لا سيما في كتابه "الإسلام؛ الماضي والحاضر والمستقبل" والذي جعل فصله الأخير بعنوان "الإسلام رمز الأمل".

إلا أن الشاهد الذي يهمنا الآن يتمثل في أن خبير الأديان هذا أَقَرَّ –وإن بعبارة مهذبة لطيفة- بأن الديانات الأخرى أُجْبِرَت على تطوير نفسها، من خلال حركات إصلاحية وعبر مجازر ومذابح وحروب دينية طويلة. وأن هذا لم يحدث للإسلام الذي ظل على حاله ولم يتعرض لمحاولات "إصلاحية عميقة".

***

وهذه النتيجة التي وصل إليها كونج، وإن كانت في نظره من السلبيات، يرى المسلمون عكسها تماما؛ إذ يؤمنون بأن الله يبعث في كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وأن الشريعة الإسلامية لها من عوامل السعة والمرونة ما يُمَكِّنها من استيعاب كل المستجدات في عالم البشر، كما أن تاريخا كاد يبلغ ألفا وخمسمائة من السنين يشهد بأن الثقافة الإسلامية لم تتعرض لما يمكن أن نسميه "محنة ثقافية"، فكلما بدا في الأفق شيء من الخروج على أصول الثقافة الإسلامية هيأ الله لها من المجددين من يجابهها؛ فكان –كما يقول العلامة رشيد رضا- الإمام أحمد في مواجهة المعتزلة، وكان الغزالي في مواجهة تيار الفلسفة والباطنية، وكان ابن حزم في مواجهة الجمود والتقليد وتعظيم أقوال الأئمة على النصوص الشرعية، وكان ابن تيمية وابن القيم في مواجهة المذاهب الكلامية والتصوفية الإلحادية (2)... وهكذا.

***

إن رؤية كونج صحيحة على مستوى أن الإسلام لم يتعرض لحركة "إصلاح" جذرية، فلم تتعرض المفاهيم الأصيلة أو الثوابت الكبرى للنقد والتغيير، فضلا عن العبادات والطقوس.

يتجلى هذا المعنى حين نرى أن الكَمَّ الأكبر من الفلسفات الغربية والتيارات الإصلاحية الغربية مَثَّلت "انقلابا" على الدين نفسه أو على أصول راسخة فيه، بينما كانت الفلسفات والتيارات الإصلاحية الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي تُقَدِّم نفسها على أنها "الفهم الصحيح للدين" لا على أنها "انقلاب" عليه، ولم تدخل العلمانية –التي تمثل انقلابا على الدين نفسه- بلاد المسلمين إلا على يد الاستعمار أو أتباعه بالقوة والقهر ثم هي لم تنجح في أن تكون تيارا أو ظاهرة حتى الآن برغم كل ما امتلكته من وسائل وانفراد بساحة التأثير أكثر من مائة عام.

وإذن، فقد احتفظت الثقافة الإسلامية بالاستقرار والرسوخ في أصولها وثوابتها ومفاهيمها الكبرى، غير أنها في ذات الوقت كانت قادرة على أن تستوعب وتتعايش وتتفاعل مع ثقافات تمتد على طول المساحة التي وصل إليها الإسلام من المعمورة، فتعرضت "لاختبارات ثقافية" بعدد ما واجهته من شعوب مختلفة وبيئات مختلفة، وهي اختبارات استمرت لأربعة عشر قرنا، ثم هي ما زالت تنجح في هذا الاختبار.

هي إذن ثقافة راسخة وثابتة في أصولها، ولكنها ذات قدرة على التفاعل والتعايش والمواجهة.. هي إذن "ثقافة مطمئنة"..

والثقافة التي نعنيها –كما قال العلامة محمود شاكر- هي "التي تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحس به، لا من حيث هي معارف متنوعة تُدرك بالعقل وحسب، بل من حيث هي معارف يؤمن بصحتها من طريق العقل والقلب، ومن حيث هي معارف مطلوبة للعمل بها، والالتزام بما يوجبه ذاك الإيمان"(3).

***

ولقد تجلى هذا مبكرا في الحياة الإسلامية، منذ وقف جعفر –رضي الله عنه- أمام النجاشي وشرح له الإسلام بعبارات جامعة مانعة، برغم أنه رجل خارج من بيئة قبلية وهو الآن في بيئة حضارية، ويعتنق فكرة جديدة مطاردة وضعيفة ثم هو يشرحها لملك يعتنق ديانة رسخت منذ ستة قرون وصار لها دول وحضارة.. لقد كان مطمئنا، حتى بعد أن اضطر إلى أن يخوض في موطن الخلاف الجوهري "ماذا تقولون في المسيح؟"، لم يفارقه اطمئنانه بالدين فقال ما يؤمن به ولو كان فيه احتمال الهلكة.

كذلك تجلى هذا الاطمئنان بأوضح من هذا في موقف ربعي بن عامر أمام رستم، إذ تجاوز "الصدمة الحضارية" التي أرادها قائد الفرس، أو قل لم ينتبه لها أصلا، فسار يخرق النمارق ويُفسد الوسائد ثم قال بثبات واعتزاز "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

ونحن نؤمن بأن هذا الاطمئنان سيظل إلى آخر لحظات الدنيا، إلى ذلك الرجل الذي أخبر النبي r أنه يخرج لمواجهة المسيح الدجال، والدجال يومئذ ربٌ وله عبيد، ومعه كنوز الأرض، ومعه جنة ونار؛ قال r: "يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين فتلقاه المسالح (الشُرطَة) مسالح الدجال فيقولون له: أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج. قال: فيقولون له: أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء. فيقولون: اقتلوه. فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدًا دونه؟ قال: فينطلقون به إلى الدجال فإذا رآه المؤمن قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله r. قال: فيأمر الدجال به فيُشْبَح فيقول: خذوه شجوه فيوسع ظهره وبطنه ضربا، قال: فيقول أو ما تؤمن بي؟ قال: فيقول: أنت المسيح الكذاب، قال: فيؤمر به فيؤشر بالمئشار (يُنشر بالمِنْشار) من مِفْرقه (رأسه) حتى يفرق بين رجليه. قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم. فيستوي قائما، قال: ثم يقول له أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، قال: ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس. قال: فيأخذه الدجال ليذبحه فيُجْعَل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا فلا يستطيع إليه سبيلا، قال: فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار وإنما ألقي في الجنة، فقال رسول الله r هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين" [رواه مسلم]

***

إن هذا يُثبت لنا أن الحضارة ليست تفوقا ماديا فقط، بل هي –قبل هذا ومعه- تفوق ثقافي، أو إذا أردنا الدقة "اطمئنان ثقافي".. ويحتاج هذا لبعض تفسير.

إن سقوط الحضارات كان دائما أمام مجموعات أقل منها في المظاهر الحضارية، وقد حدث غير مرة أن أَسَرَت الحضارةُ المهزومة مجموعات المنتصرين، يحدث هذا الأَسْر إذا كانت ثقافة المهزومين متفوقة على ثقافة المنتصرين.

وبهذا نفسر كيف لم تتهيب جيوش المسلمين حضارات الروم وفارس التي قضت في الزمان أكثر من عشرة قرون، فيما هم بدو خرجوا قبل قليل من الصحراء، كانت الجيوش مطمئنة إلى دينها –الذي هو هو ثقافتها- فلم تأسرهم حضارات الآخرين بل استفادوا هم منها لصنع حضارتهم الجديدة.

وبهذا نفسر أيضا دخول المغول والأتراك في الإسلام؛ ذلك أن لم تكن لهم حضارة من قبله، فهم برغم انتصارهم العسكري على المسلمين إلا أنه لم يمض كثير وقت حتى دخلوا في الإسلام وجددوا حضارته مرة أخرى في الهند ووسط آسيا والقوقاز وفي آسيا الصغرى وأوروبا.

ولا نجد حتى في لحظات الانهيار الحضاري للمسلمين انخلاعا من الإسلام إلا على مستوى القليل النادر ممن خطف أبصارهم بريقٌ آخر، وهؤلاء هم الذين لم يكونوا مطمئنين بالإيمان، فهُزِموا في ميدان الحضارة، أما عامة المسلمين ومعهم نخبتهم الأصيلة فلهم موقف آخر؛ فالجبرتي مثلا نراه في لحظة الانهيار العسكري والحضاري أمام الحملة الفرنسية يفسر الحال بأنه "اختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع"(4).. ثم يأخذ في نقد الفرنسيين نقد مطمئن بنفسه وثقافته، فلم يبهره تفوقهم، بل أبان عن عوامل تفوقهم وعن غوائل تجبرهم.

وتاريخ القرن الماضي كله ينتصب دليلا على أن الأمة المسلمة احتفظت بثقافتها برغم كل ما سُلِّط عليها من وسائل تحملها على أن تسير ذات اليمين وذات الشمال، ولا يعوز الأمة الآن إلا أن يقودها من يعبر عنها، فإن نكبتنا الثقافية والحضارية في هذه الحقبة ليست إلا لغياب هذا العامل.

إن الغوص في أعماق الناس يكشف أن الأمة لا تعاني هزيمة ثقافية، بل هي حقا مطمئنة إلى دينها الذي هو ثقافتها، وليست تجري انتخابات "شبه" نزيهة في أية دولة إلا ويكتسحها المعبرون عن هويتها وثقافتها بسهولة، وكل هذه المظاهر التي تبدو على السطح من آثار التغريب والانحلال ليست إلا كحال عمار بن ياسر –رضي الله عنه- حين نطق بكلمة الكفر بعد طول العذاب الشديد، إلا أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان!

***

ثمة دليلان رئيسيان يثبتان أن الإسلام "ثقافة مطمئنة":

الأول: أنه لم يُكره أحدا على اعتناقه، واعترف للآخرين بحرية اختيار أديانهم، بل سار في المسار بأبعد من هذا، فجعل رعاية هذه الحرية من مهماته. بل إن مونتجمري وات يسير أبعد من هذا فيقول "هناك اهتمام في الإحصاءات الإرسالية (التبشيرية) بعدد المتحوِّلين للمسيحية، وبزيادة الأعضاء المنتمين للكنائس المحلية، والمسيحية في هذا الصدد تصل إلى حَدِّ التناقض مع الإسلام، فرغم أنه دين دعوة كالمسيحية، إلا أنه أقلُّ تباهيًا بالداخلين فيه؛ فالمجتمع الإسلامي يجذب أناسًا إلى الإسلام لمجرَّد قبولهم كإخوة (في الإسلام)، وهذا الاتجاه لا يَتَّخذه إلا أصحاب دينٍ واثقون من دينهم ثقة عظيمة لا تجعلهم يؤكدونها بالإحصاءات، بينما نجد المسيحيين الغربيين يمرُّون بأزمة ثقة في النفس"(5).

والثاني: أنه على طول هذا التاريخ لم يتعرض "لمحنة ثقافية" كتلك التي تعرضت لها المسيحية في أوروبا مع اكتشاف الحقائق العلمية، ومع ظهور المذاهب الإصلاحية المسيحية، ومع ظهور الإسلام كذلك.. وغاية ما يمكن أن يُذْكَر في هذا الأمر هو نشوء المذاهب المنحرفة، وهي المذاهب التي لم يُكتب لها البقاء طويلا، ولا تُقرأ الآن إلا في مجال دراسة التاريخ الفكري.

***

إن العولمة الثقافية أزمة حقيقية تواجه أصحاب الثقافات التي لا تمتلك من الإمكانيات ما تستطيع به التعبير عن نفسها أو حتى صد الهجمة الثقافية التي تتسلح بالإمكانيات الحديثة، ولهذا فالنظر إلى هذه الأزمة من حيث إدراك خطورتها والتنبيه عليها والدعوة للحذر منها وترتيب الخطط والوسائل لدفعها عن ثقافتنا الإسلامية هو عمل جليل ولا ريب، بل هو عمل واجب يفرضه الدين وتَطْلبه الفطرة الإنسانية، ولذا فلا ريب في أن تصوير خطر العولمة والتهديد الثقافي على سبيل التنبيه والتحفيز وإعداد العدة هو من واجبات المرحلة.

لكن توسيع دائرة الرؤية وعدم حصرها في هذه اللحظة التاريخية يكشف لنا أن أزمة العولمة على الثقافة الإسلامية ستكون كغيرها من الأزمات التي اشرأبت بنفسها واكتست زينة واكتسبت بريقا، ثم تهاوت بعدئذ وصارت أحاديث!!

ولذا فلسنا نخاف على الثقافة الإسلامية، فهي ثقافة راسخة أصيلة.. إنما التحدي الواجب في هذه اللحظة أن ننظر في الطريقة الأمثل التي تتفاعل بها مع هذه التحديات المستجدة، فهي –أيضًا- ثقافة قادرة على التفاعل والاستيعاب والتعايش وكذلك على المواجهة.. ونحن لن نفعل هذا ولا ذاك على وجه الصحة ما لم نوقن ونؤمن في قرارة أنفسنا أولا بأن الإسلام "ثقافة مطمئنة"..


(1) هانس كونج: الإسلام رمز الأمل؛ القيم الأخلاقية المشتركة للأديان، ترجمة رانيا خلاف، دار الشروق - القاهرة، الطبعة الأولى، 2007م. ص37.

(2) محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام، دار الفضيلة، الطبعة الثانية، 2006، 1/ج.

(3) محمود شاكر: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص30.

(4) الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، دار الجيل – بيروت. 2/179.

(5) مونتجمري وات: الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر، ص225، 226.

نشر في مجلة الوعي الإسلامي،

عدد 547: ربيع الأول 1432 هـ / فبراير 2011م

هناك تعليق واحد:

  1. المهندس محمد، مقالة موفقة ورائعة، أعجبني الاتزان في الطرح، أشكرك

    ردحذف