الأحد، أغسطس 24، 2008

المجتمع الإسلامي المشوه 2/3

اقرأ أولا: المجتمع الإسلامي المشوه 1/3

اختلاف في غاية الخطورة حدث ما بين العصور الإسلامية والعصر الحديث ، اختلاف ترتبت عليه نتائج في غاية الأهمية وفي غاية الخطورة ، وأحسب أن الاجتهاد الإسلامي لم يواكبه بالقدر الكافي .. لقد نشأت الدولة المركزية ، ثم .. جاءت العولمة ودخلنا في عصر هيمنة القطب الواحد .

واستأذن القارئ الكريم وأرجو أن يصبر معي لقراءة هذا الاقتباس من كتاب العلم الكبير د. محمد عمارة في كتابه ( هل الإسلام هو الحل ؟ لماذا وكيف ) فبه سيتضح الفارق الضخم والتأثير الخطير . قال د. عمارة – باختصار وتصرف - :

” في التطور الحضاري لأمتنا الإسلامية هناك معادلة غير مفهومة لدى كثيرين ، تتمثل في التوفيق بين الانحراف المبكر للدولة الإسلامية عن الشورى وانتقال الخلافة إلى الملك العضوض ، وكذا انحراف الدولة في كثير من فتراتها عن العدل الاجتماعي ، وبين بناء وازدهار الحضارة الإسلامية كأعظم حضارات التاريخ الإنساني في ظل هذا الانحراف .. تلك هي المعادلة التي يخطئ في فهمها وحلها الكثيرون فيظلمون تاريخنا الحضاري .

وهذا الموقف الخاطئ نتج من إغفال حقيقتين هامتين من حقائق التاريخ الحضاري لأمتنا الإسلامية :

1- أن نطاق الدولة وآفاق تأثيراتها في ذلك التاريخ القديم لم يكن على النحو القائم الآن في الدولة الحديثة ، فنطاق الدولة الحديثة يكاد ألا يدع في الحياة ميدانا ولا مجالا إلا ومد إليه شمولية تأثيراتها وبصمات مؤسساتها .. الأمر الذي يجعل من انحراف الدولة الحديثة طامة كبرى تحول بين أتها وبين تحقيق أي نهوض .. حتى اعتبرها جمال الدين الأفغاني ” فرعونية جديدة ” لا يرى الناس إلا ما ترى . فقال : لا يصلح في الشرق “كما تكونوا يولى عليكم” ، ولكن : ” كما يولى عليكم تكونون ” .

ولم يكن هكذا تأثير الدولة فيما مضى حتى لقد حدد معاوية بن أبي سفيان نطاق تأثير الدولة عندما قال : ” لن نمنع الناس ألسنتهم ما خلوا بيننا وبين أمرنا ” .. فعندحدود استقرار عرش السلطان تبدأ قبضة الدولة في التراخي وينفتح المجال أمام الحقيقة الثانية .

2- أن الأمة .. ومؤسساتها الأهلية وجهودها الطوعية وأعمالها الخيرية وعلماءها ومجاهديها ومذاهبها وتياراتها الفكرية والتي ظلت خارج نطاق هيمنة الدولة ، فلم تعطل الانحرافات ( في نظام الدولة ) طاقات الخلق والإبداع فيها .. إن الأمة ومؤسساتها هي التي أبدعت حضارة الإسلام .. كانت الدولة تقود الفتوحات لكن الأمة هي التي كانت تنشر العربية وعلوم الإسلام بل كان الفتح والجهاد نفسه صناعة الأمة التي تقوم بها المؤسسات الطوعية .

فالأمة هي التي صنعت الحضارة ورعتها وطورتها ، وهي قد استطاعت ذلك رغم انحراف الدولة لأن نطاق الدولة وتأثرات انحرافاتها كان محدودا “(1)

هذا – باختصار – هو المؤثر الخطير الذي جد في التاريخ الإنساني والإسلامي خصوصا فقلب كثيرا من الموازين .. وجود الدولة المركزية التي أصبحت فرعونية جديدة – كما قال موقظ الشرق جمال الدين الأفغاني – والتي يمتد تأثيرها من خلال مؤسساتها إلى غرف النوم وداخل تلافيف العقول .. ولهذا فإن انحراف هذه الدولة الشمولية يكون انحرافا كارثيا وخطيرا وذا تأثير مدمر .

لقد استطاعت الأمة في التاريخ الإسلامي أن تتحرك بحرية في مجال البناء وصناعة الحضارة ، وكان نظام الوقف الإسلامي يعد الأسلوب الفريد الذي تميزت به الأمة في تمويل حضارتها بنفسها دون أن تحتاج إلى الدولة كنظام سياسي ، ودون أن يؤثر ضعف الدولة سياسيا على انهيار الأمة ثقافيا وحضاريا ، فحتى في عصر الحروب الصليبية وقد وقعت الأمة تحت تسلط الصليبيين لضعف النظام السياسي كانت الأمة هي الأرفع شأنا حضاريا حتى وهي مهزومة ومنها تعلم الصليبيون بعض الحضارة وارتفعوا عن التوحش الذي قدموا به من أوروبا حيث عصر الظلمات عندهم .

وإدراك هذا سيفسر لنا كثيرا من الاجتهادات الفقهية ، خصوصا أراء العلماء التي ترى عدم الخروج على السلطان الجائر والصبر عليه طالما أنه يقيم الصلاة ويسمح بإقامتها ، ويفسر لنا كذلك كيف أن كثيرا من علماء السنة يرون الصبر على الحاكم مهما جار وظلم إلا أن يكفر فإنهم يجمعون حينها على أنه ينعزل بالكفر إجماعا .

هذا الاجتهاد الذي يبدو متناقضا ، تحمل وصبر ثم مزيد من التحمل والصبر ومزيد من النصح والتحمل والصبر ، فإذا كفر فعلى كل مسلم أن يخرج ويبذل وسعه لخلع وعزل هذا الحاكم .. هذا الاجتهاد لا يفسره إلا أن هذا العصر كانت الأمة وعلماءها يملكون أن ينتقلوا في وقت بسيط إلى مرحلة الثورة بما يملكون من مكانة ومن قدرة يدعمها تمويل ذاتي من مؤسسات الوقف حيث لا يأخذون رواتبهم من الدولة ، وحيث هم وسيلة الإعلام الأقوى والأكثر فعالية بين الناس .

وسأتوسع بإذن الله في هذه النقطة عند إكمال سلسلة ( علماء السلطة وعملاء الشرطة ) ، لكن ما يهم في هذا المقام هو أن وجود الدولة المركزية ضرب مقومات الأمة ونقاط فعاليتها ومراكز تأثيرها في مقتل ، وخطف كل هذه العناصر لصالح الدولة .. وأبرز مثال هو ما حل بالعلماء والقيادات الشعبية للأمة .. وفي هذا المثال يقارن الدكتور عمارة بين عمر مكرم القائد المصري الشعبي الذي ضمنت له مؤسسة الأوقاف حريته واستقلاله عن الدولة حتى لا يستطيع الوالي جمع ضريبة من الشعب إلا إذا باركها السيد ( أي عمر مكرم ) ، وبين رفاعة الطهطاوي والذي برغم مكانته كان المثقف الموظف الذي إذا أنجز العمل الفكري أو الترجمة أعطاه الوالي مكافأة وأوسمة .

وهنا انتهت ثنائية الدولة والأمة التي كانت عبر العصور لتصبح الدولة هي كل شئ ، وهذا ما جر علينا النكبات لأن الدولة إذا انهزمت انهزمت معها الأمة ، ويحلل جلال كشك رحمه الله في كتابه ( ودخلت الخيل الأزهر ) فيقارن بين الحملة الفرنسية التي لم تستقر يوما في مصر برغم هزيمة المماليك أمام الفرنسيين لأن الأمة كانت حية تولت قيادة الجهاد ، بينما بعد حوالي مائة عام أتى الإنجليز فاحتلوا مصر فاستطاعوا أن يقيموا فيها سبعين سنة ، لأن الأمة والدولة انهزمتا معا بهزيمة جيش الدولة وفشل ثورة عرابي .

وفي إطار هذا التحليل ، الدولة المركزية التي ضربت الأمة ، يحدد جلال كشك أربع ( في كتابه : الناصريون قادمون ) محطات فارقة هي : ضربة محمد علي ، الاحتلال الإنجليزي ، ضربة عبد الناصر لمؤسسات المجتمع المدني ، ضربة مبارك لشركات توظيف الأموال .. هذه هي المحطات التي بدا في كل منها أن الأمة على وشك إيجاد الحل لصناعة المجتمع المدني أو مجتمع البورجوازية الصناعية لتستمر النكبة ويطول أمدها .

وإذا أحببنا أن نركز على الحالة المصرية ، فسنجد أن المصريين منذ قديم شعب تستقر معه نظام الدول لانعدام وجود العصائب والقبليات التي هي أكبر من الدلة حتى يقول ابن خلدون في هذا ” الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها ويكون سلطانها وازعا لقلة الهرج والانتقاض ولا تحتاج الدولة فيها إلى كثير من العصبية كما هو الشأن في مصر والشام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل والعصبيات كأن لم يكن الشام معدنا لهم ( أي للقبليات والعصبيات ) كما قلناه فمُلك مصر في غاية الدعة والرسوخ لقلة الخوارج وأهل العصائب إنما هو سلطان ورعية ودولتها قائمة “(2)

فإذا أضفنا إلى ظهور الدولة المركزية ، ظهور العولمة وهيمنة القطب الواحد ، ثم سيطرة هذا القطب على حكام المنطقة العربية بالذات حتى أصبح الواحد فيهم يتفانى في الخدمة ولو لم يطلب منه ، وهو يفعل ويحكم ويسيطر بحكم سيطرته على مؤسسات الدولة جميعا ( حتى الجمعيات الأهلية والخيرية ) .. فهل يمكن أن نتخيل إلى أي حد يمكن أن يصل انحراف الدولة التي ابتلعت الأمة ، وبالتالي إلى أحد يمكن أن يكون الانحراف كارثيا ومدمرا وفارقا في مسيرة الأمة نحو نهوضها ؟؟؟

————————–

(1) انظر : هل الإسلام هو الحل . د. محمد عمارة . ص 110، 111 . ط2 . دار الشروق . 1418 هـ ، 1998 م

(2) انظر : مقدمة ابن خلدون (1/207) ط. دار الفكر ، بيروت . 1421هـ / 2001 م


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق