الأحد، أغسطس 22، 2010

الزاهد هو المجاهد!

حينما كتب مايكل هارت كتابه عن المائة الأكثر تأثيرا في تاريخ البشرية وضع محمدا –صلى الله عليه وسلم- في أول القائمة، وقال بوضوح: "لا بُدَّ أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حقٌّ في ذلك، ولكن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي".

ليس هذا قول مايكل هارت وحده، بل هو قول كل ناظر إلى التاريخ طالما كان متجردا للحق، لقد كان محمد –صلى الله عليه وسلم- الأوسع والأعظم والأعمق تأثيرا على مجرى الحياة الإنسانية كلها، ما يجعله –وبجدارة- الرجل الأول في هذه الدنيا.

إلا أن اللافت للنظر أنه حقق هذا كله وكان أزهد الناس في الدنيا، كان يُخرجه الجوع في الليل، ويظل بيته شهورا لا توقد فيه نار تنضج الطعام، كان مهر ابنته وأحب الناس إليه درعا ذهبت المعارك ببهائها فلا لها قيمة في المال ولا مكانة في الجمال، ثم مات هو –صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة.

ذات يوم رآه صحابته وقد أثرت قسوة الحصير الذي كان ينام عليه، فحفرت لنفسها خطوطا في جسده الشريف قالوا له: لو اتخذنا لك وطاء، فقال: "ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".

ثم لما دخلت امرأة من الأنصار على عائشة ورأت فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذهبت فبعثت بفراش أحسن منه، هذا الأحسن كان فراشا حَشْوه الصوف! فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- -قال: "ما هذا يا عائشة؟" قالت: يا رسول الله، فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك فذهبت فبعثت إلي بهذا. فقال: "رديه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة".

لم يحفل بالدنيا، وربما صح قولنا أنه احتقرها، ودليلنا في هذا قوله "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار بالسبابة - في اليم فلينظر بم يرجع؟".

وكان يوصي أمته بالزهد فيها، ذات يوم أخذ بمنكبي عبد الله بن عمر وقال له: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".

***

كيف يستوي أن يكون الرجل الأعظم تأثيرا في الدنيا هو أزهد الناس فيها؟ وأكثرهم ترفعا عنها؟ وأقلهم منها حظا ونصيبا؟
وكيف استطاع –وهو يحمل هذا الشعور تجاه الدنيا- فتح الدنيا شرقا وغربا؟ بل وإقامة دين لا يقبل أن تنتزع منه الدنيا، ولا استطاع أحد أن ينتزعه من الدنيا؟

وكيف اجتمع في فؤاد رجل من أتباعه أن ينتضي السيف محاربا، وأن يعلن في الوقت نفسه أن رسالته "إخراج العباد من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة"؟ثم إنه قالها وهو قليل الثياب رقيق الحال، في حضرة من بُسطت له النمارق واستقرت بين يديه الزينات.

وكيف اجتمع لرجل من أتباعه أن يملك الدنيا شرقا وغربا ثم هو نفسه يقول: ليت أم عمر لم تلد عمر؟

من يستطيع أن يفسر كيف حدث هذا؟ كيف اجتمع امتلاك الدنيا والزهد فيها؟ كيف لم يأخذ أحدهما من الآخر: فلا الدنيا أخذت من الزهد فاستولت على القلب، ولا الزهد قعد بالهمة فمنعها من امتلاك الدنيا؟

ما أعجب هذا!! زهد في مُلْك، ومُلْك مع زهد.. وجيوش تملك الدنيا ورسالتها أن تخرج بالناس من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة؛ جهاد زاهد، وزهد مجاهد!!!

***

الزاهد حقا هو من استعلى على الدنيا لا من هجرها، فيجاهد لإصلاحها لا يخشى منها شيئا، ولا يخشى فيها على شيء، لا يغريه ذهب السلطان، ولا يخيفه سيفه.. الزاهد حقا هو المجاهد..

هكذا كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فكان أعظم الرجال أثرا في الدنيا، وهكذا كان صحابته –رضوان الله عليهم- فكانوا خير الناس।

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق