الاثنين، يونيو 14، 2010

عن "خطيئة" اتباع الظن!

من حكم الإمام الشافعي قوله “لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف”، وصدق. ذلك أن اجتهاد البعض بالتحليل والتفسير والتوضيح لأمرٍ وهو لا يعرفه حق المعرفة، يكون بداية وقاعدة لتحليل وتفسير جديد موغل أكثر في الخطأ بطبيعة الحال، ومع كل قراءة أخرى يزيد تثبيت المعنى الخاطيء أو تطويره نحو معنى أكثر خطأً.

وفي عصرنا الذي تهطل فيه المعلومات والتحليلات سيولا غزيرة، صارت الحاجة أدعى إلى الورع في النقل والفهم والتحليل، وأدعى إلى التثبت والتبين عند القاريء الذي بات عليه أن يعرف حجم ومكانة من يقرأ له من الصدق والأمانة والنزاهة والأهلية فيما يتكلم فيه، فقدر الشهادة على قدر الشهود!

ومنذ أيام كتب أحدهم[1] بأن أسلمة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يختزل تحرير “فلسطين إلى تحرير القدس ثم اختزال القدس بمقدساتها المسيحية والإسلامية إلى استعادة المسجد الأقصى”، ولذا فهو يدعو إلى “عدم أسلمة” هذه القضية.

ومَثَل هذا كَمَثَل كثير ممن تصدوا لأمور ليس لهم بها علم (إلا اتباع الظن)، وهو يُذكِّر بالسيدة الإنجليزية الليدي ماري التي زارت تركيا في أوائل القرن الثامن عشر و”فوجئت” بأن النساء التركيات لا يضقن بالحجاب الذي عزلهن عن الرجال بل رأين فيه حرية وأمانا، فأدهش هذا السيدة الإنجليزية التي تحسبه عنوانا على الظلم والقسوة وانتهاك حقوق المرأة كما لا يزال البعض حتى الآن يتعرض لنفس الدهشة. بل إن ما يزيد المشهد طرافة أن التركيات حين دعونها للاستحمام في حمام النساء في “أدرنة” واكتشفن أنها تلبس “حمالة صدر” اقتنعن أنها لا تستطيع تلبية رغبتهن لأنها حبيسة بقيود هذه الآلة التي وضعها لها زوجها وعلقت إحداهن قائلة “انظرن كم يقسو الأزواج الإنجليز على نسائهن المساكين”[2].

وبعده بمائة عام روى المستشرق الفرنسي بريس دافين –”إدريس أفندي”- في مذكراته عن مصر في عهد محمد علي كيف أن تعدد الزوجات ليس كما يتخيله الغربيون، “الغيرة التي بين نساء الحريم أقل بكثير مما نظن بوجه عام، فهناك غير قليل من النساء يعشن معا كالأخوات، يهتممن بنفس الشئون في ظل نفس الحنان دون أن يُتْلِفهن الحسد”، وروى لذلك قصتين: قصة لضابط فرنسي تزوج من قبطية مصرية ثم بعد سنوات أحب فرنسية أخرى وتزوجها، واستسلمت القبطية لهذا التطور الجديد. غير أن خبر زواج الفرنسي من قبطية قد تسرب إلى الزوجة الفرنسية الجديدة التي اشتاقت لترى الزوجة المصرية، فذهبت إليها متنكرة ثم عاشرتها لبعض الوقت فلما وجدتها “ممتازة في عوائدها بقدر ما هي ممتازة في تعلقها العميق بزوجهما المشترك قررت أن تسكن معها” في أثناء غيبة طويلة للزوج، ولما عاد الرجل قالت له زوجته الفرنسية “لقد عشنا منذ رحيلك كالأختين، وأرجو ألا تفرقنا”.

ثم قال إدريس أفندي أنه يستطيع أن يذكر “ألف مثل من نساء يخترن بأنفسهن الغريمات اللواتي سوف يشاطرنهن فراش الزوجية” ولكنه اكتفى بمثل واحد آخر وهو لزوجة الشيخ حسن الجبرتي والد المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي، ومفادها أن هذه الزوجة نشأت بينها وبين فتاة جارية صلة عميقة وحب شديد، وتحايلت لتزوج هذه الفتاة لزوجها الشيخ حسن فتبقى معها دائما، وكانت هذه الصحبة رغبة الفتاة أيضا[3].

وهكذا يُفاجأ من كان يتبع الظن حين يأتيه العلم، كم من مناهضي تعدد الزوجات يعرف شيئا من هذا حين يتحدث عنه ويهاجمه ويرفضه ولا يرى فيه إلا “الجنس المستعر واللا إنساني”؟ وكم من مناهضي الحجاب عايش شعور المتحجبة وحاول أن يتفهمه ويتأمل فيه قبل أن يعتبره “الخيمة التي هي غطاء العقل والمعبرة عن الخوف من مواجهة المجتمع”؟

ليس ذلك إلا كمن يقول بأن أسلمة قضية فلسطين تختزل تحرير فلسطين في تحرير المسجد الأقصى!!

————————-

[1] الباحث عمرو حمزاوي في مقاله “أربعة أسباب للامتناع عن أسلمة الصراع العربى مع إسرائيل” بجريدة الشروق المصرية بتاريخ 6/6/2010.

[2] انظر: ول ديورانت: قصة الحضارة 41/9.

[3] إدريس أفندي في مصر. تحرير: جمال الغيطاني ص42: 44.

نشر في منارات وقصة الإسلام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق