الاثنين، يونيو 28، 2010

التهافت

قال المتنبي:
ومن يك ذا فم مرٍّ مريضٍ … يرى مرًّا به الماء الزلالا

والمعنى: أن الذي في فمه طعم المرار يجد مرارة في كل شيء يذوقه ولو كان الماء العذب الصافي.

ولكن الذي يهدم النفس ليس مرارة الفم بل مرارة الثمار..

وقف الفتى ينظر إلى الفاكهة الشهية، وقد ظن أنها بلغت الذروة في النضج والاستواء، وكان قد تخير دكانا يغلب عليه الصدق والأمانة والنزاهة، فاستقر في ظنه أن الثمار شهية صحيحة طيبة، وكان يعلم –بطبيعة الحال- أن الكمال محال، وأنه لابد واجد من بين تلك الثمار الناضرة المنظر بهية الظاهر ثمارا مرة المذاق فاسدة الباطن.

غير أنها في النهاية شذوذ واستثناء.. فالأصل الغالب أنها ناضرة المنظر طيبة المخبر، وأنه يقف أمام خير قد يداخله فساد قليل..
إلا أن التجربة كشفت عن أمر آخر..

فما إن يمد يده إلى أنضرها فيظنه أشهاها وأطيبها إلا ويجد في فمه طعم مرارها، فلا يلبث أن ينظر إليها مستنكرا يفور في نفسه السؤال: كم خدعتِ من قبلي؟ وكم من البشر ما زالوا بكِ مخدوعين؟ وكيف جمعت كل هذه المرارة والقسوة إلى هذا البهاء والنضرة؟
ثم تهدأ النفس الثائرة المستنكرة، فتمارس حسن الظن، وتعود إلى اتهام النفس، وتقدر خطأ الاختيار.. فترى في أخواتها من الثمار خيرا كثيرا قد يداخله فساد، وأن التجربة الأولى قد صادفت هذا الفساد، فيعود إلى نفسه يصحح نظرتها ويعيد إقناعها ويحفزها على أن التجربة القادمة ستصادف الخير الذي لا فساد فيه..

وتعود النفس سيرتها الأولى، فتنظر إلى البهاء والجمال والنضارة الظاهرة فتتخير لنفسها أنضر الثمار التي تنبيء عن طيب المطعم، ولكن الثمرة الأخرى جاءت كأختها الأولى..

ثم جاءت الثالثة كأختها الثانية..

ثم الرابعة كأختها الثالثة..

ثم الخامسة كالرابعة..

وهكذا.. وهكذا..

ذهبت صورة الخير الذي قد يداخله فساد، وجاءت صورة الفساد الذي قد يداخله خير وقد لا يداخله..

وضرب النفسَ زلزال هائل، زلزال كالذي ينسف الجبال نسفا، فيذرها قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.. وإذا بالجبال القمم الشوامخ، السامقات العاليات الذاهبات بعيدا في جو السماء.. قد انهارت ترابا ورمادا.. انسالت على الأرض كما تنسال الذرات الحقيرات، تقلبها الرياح ذات اليمين وذات الشمال.

انهارت الجبال الشامخة وصارت صحراء جرداء .. لا ترى فيها عوجا ولا أمتى..

وما بين الصحراء والجبال فرق رهيب، فهذه تثير الوحشة والغربة والعناء.. وتلك تبث العظمة والشموخ والكبرياء، هذه يستجار منها، وتلك يُلتجأ إليها، هذه عناء الجوع والعطش والسفر وتلك راحة الظل والأنس والمأوى..

فما الحال إذا انقلبت الجبال إلى صحراء؟؟

كيف يكون حال المسافر الذي كان يغذ السير إلى الجبل يستأنس به ويلتجيء إليه ويطلب فيه النجاة من الصحراء.. كيف يكون حاله إن وصل إليه فلما أتاه إذا به ينهار؟ أو قل: وجده صورة الجبل وحقيقة الصحراء؟؟

هذا حال من سقطت أمام عينه القدوات والرموز!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق