الأربعاء، أبريل 12، 2006

صلى الله عليه وسلم

لم أكن أنوى ولا نويت فيما سبق أن أكتب عن محمد صلى الله عليه وسلم .. ليس هناك سبب واضح إلا إيمانى بأن الكتابة عن شئ هى وصف للمعاناة فيه .. وإلا تحولت إلى تنظير يسبح فى التعبيرية المنطقية الباردة كأنما هو نظرية مثلا وليس وصفا لحقائق ومشاعر .. وما أحسبنى وصلت إلى الحد المناسب للإحساس بعظمة النبى صلى الله عليه وسلم .

قد يتخيل كثيرون أنى أتكلم كمقدمة بلاغية لكى تزيد من تأثير كلامى .. وهو ما أقسم بالله على أنه ليس صحيحا ، وإنما هى الحقيقة التى أعجز عن التعبير عنها كما يجب من خلال الألفاظ والكلمات والحروف .

ربما سيختصر المسافة نقلى لهذه الجملة التى كتبها العقاد فى بداية كتابته لكتاب عبقرية محمد حيث قال - فيما معناه طبعا - : هممت أن أكتب عن محمد منذ ثلاثين عاما حين تكلم رجل ممن يدعون الثقافة ويحسبون أن المثقف لابد وأن يسب الدين والأنبياء مدعيا التحرر من كل ما سوى عقله .. لكن الزمن والظروف أجلت كتابة هذا الكتاب ثلاثين عاما كاملة ، وبعد هذا الزمن أنظر إلى هذه الثلاثين عاما فأرى أنها كانت ضرورية للكتابة عن محمد صلى الله عليه وسلم ففوق ما تراكمت فيها المعارف والخبرات واستوى فيها نضوجد الذهن .. فإنها وضعتنى فى مواقف ومسؤوليات والتزامات كان لزاما على أن أعيشها حتى أدرك عبقرية محمد فى هذا السن وهذه المواقف .. وهو ما كان ابدا ليحدث لو أنى كتبت هذا الكتاب منذ ثلاثين عاما.

هذا تقريبا هو ما أريد قوله ، فإن شابا مثلى فى مقتبل العمر لم يحمل هم زوجة ولا أولاد ، بل ولم يدخل فعليا فى أمواج الحياة ليس له أن يشعر بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يتعرض للمعاناة التى تعرفه طعم العظمة للنبى محمد صلى الله عليه وسلم .

لكنه شئ يشبه النظر من بعيد .. الرنو إلى أعلى .. إلى ذلك النموذج الأنجح تاريخيا على الإطلاق ، وهو الرجل الذى تمثلت فيه صفات الكمال الإنسانى حتى كان يظن كل من حوله أنه أحب الناس إليه .. ففى حديث لسيدنا عمرو بن العاص سأله عن أحب الناس إليه متوقعا أن يكون هو .. فلم يكن هو لا الأول ولا الثانى ولا الثالث .. وظل عمرو - رضى الله عنه - يسأل حتى العشرين .. ولم يكن منهم ، فتوقف عن السؤال متوقعا أن يكون هو الواحد والعشرين .

الدخول فى الكتابة عن محمد صلى الله عليه وسلم تشبه الدخول فى البحر .. لاتستطيع وصفه لأنه يحيط بك من كل جانب .. فى أى جهة التفت وجدت شيئا يستحق الوصف والتأمل ، ما تكاد تنوى أن تصفه حتى يكون قد استرعاك شئ آخر جدير بالوصف والتأمل .. فتجاهد لكى تكتب عن الثانى دون أن تنسى الأول .. وعند هذه النقطة يسترعى نظرك شئ آخر يبدو أكثر جمالا وأجدر بالتأمل .. وما هى إلا لحظات حتى تكون قد غرقت فى الدوامة .. لتجد نفسك لم تكتب شيئا ولم تصف شيئا بل ظللت مشدوها مبهور ومذهولا .

وهنا تجتاحك أنواع أخرى من الحيرة .. فالكاتب بطبعه ، كما الرسام كما المصور كما الجندى الذى يشعر فى انطلاق رصاصته بأنه يفرغ هما من صدره ، فإذا شعر بأن رصاصته محبوسة لا تستطيع الانطلاق شعر بالاختناق .

هكذا الكاتب تماما .. إذا سيطر عليه معنى أو شعور ولم يجد من الألفاظ فى ذهنه ما يستطيع وصف هذا الشعور ظل مضطربا ومحتارا ، ويشعر بهذا الهم الذى جثم على صدره فيمنعه من التنفس ، فتكون النتيجة النهائية أنك لم تكتب شيئا ، واصابك اختناق المشاعر المنبهرة بعظمة محمد .. ألا ترون أن هذا ما حدث الآن .

لم أقل للقارئ شيئا تقريبا .. فلا هو استفاد ولا أنا تكلمت .

فى رمضان الماضى ، فتح أحمد بحيرى الشهير بهريدى موضوعا فى قهوة كتكوت طلب فيه من كل واحد أن يذكر الموقف الذى يؤثر فيه من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان موضوعا رائعا .. كانت العظمة المنسالة من شخصية محمد صلى الله عليه وسلم تبدو وكأنها بلا نهاية .. كل زاوية للنظر تثمر موقفا يتسلل إلى النفس فيسحرها ويبهرها ..

صلى الله على محمد ، صلى الله عليه وسلم .

أبحث ألآن عن موقف يشفع لى عند قارئ هذا المقال حتى لا يخرج منه يلعننى على ضياع وقته .. نعم .. وجدته .

ورد عنه صلى الله عليه وسلم أن الجارية وهى الفتاة التى دون سن الحيض ، كانت إذا لقيته تأخذه من يده وتمشى به حتى خارج المدينة ، ثم تسر له بحاجتها ، وهو - صلى الله عليه وسلم - مستسلم لها حتى تقضى حاجتها ، ثم تتركه وتمضى .

كيف بلغ هذا الرجل وهو القائد الأعلى للدولة هذا القدر من التواضع والبساطة والقرب من الناس حتى من الأطفال الصغار إلى الدرجة التى لا تهتم الفتاة بأن تذهب إليه وتأخذه من يده وتجرى به بعيدا وتحكى له ما أرادت .. كيف كان قريبا وبسيطا ومحبوبا إلى هذا الحد ؟

تعجب صحابى حين وجده جالسا يلاعب طفلا صغيرا اسمه عمير ويواسيه لأن الطفل كان له طائر يسمى النغير قد مات .. كيف التفت السياسى العظيم والمحارب الفذ وقائد الدولة وصاحب التسع زوجات والمربى لمن حوله .. كيف كان ذهنه منشغلا بطفل له طائر يسأله عنه كلما لقيه ، فلما مات جلس يواسيه ؟؟

كان إذا صافح لا ينزع يده إلا إذا نزع الآخر يده .. كان يضحك ويمزح .. كان محبوبا إلى حد أنه لاتسقط قطرة من وضوئه على الأرض .. فلها ألف منتظر ححتى شهد له أبو سفيان بأنه لم ير أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا .

صلى الله عليه وسلم .

كان متفردا صلى الله عليه وسلم .. كل هذا الحب وهذا العطف وهذه الرحمة .. كلها .. خرجت من قلب يتيم فقد اباه وفقد أمه وفقد جده ولم يتعد الثامنة من عمره .

هذه فى حد ذاتها عنصر عبقرى وجانب مذهل .. فالواقع ومن خلال تجاربى الشخصية يكون الشخص الذى نشأ يتيما أو فى ظروف أسرية مضطربة أقل اعتناءا بالعاطفة وأكثر واقعية وعملية .. لا اقول قسوة ، وإن قلتها لما عدت فى حق اليتيم عيبا أبدا .. لأنه منذ نشأته كان مفتقدا للأمان الذى يمثله حن الأب وللحنان الذى يمثله حضن الأم .

كان - صلى الله عليه وسلم - يتيما .. وكان فى ذات اللحظة رحمة للعالمين .. حتى حين رأى رجلا قد هابه واضطرب منه قال له فى رقة : هون عليك ، فإنما انا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة .

صلى الله على محمد ، صلى الله عليه وسلم ..

ما زلت لم أقل شيئا ، لكن لعل ما قلته يشفع لى لدى القارئ .

صلى الله على محمد ..
صلى الله عليه وسلم .


11/4/2006

هناك تعليق واحد:

  1. شكرا يا أخ نيمو .. ربنا يكرمك يارب .

    لا تحرمنا من حضورك وتشجيعك دائما .

    ردحذف